الطفولة: حضانة أولى في جوف الحياة، وهي عالمُ من الاكتشافات والأسئلة، وكوكب متلاطم من الصدمات والإخفاقات، وهي ترسم معالم الكائن طوال حياته، لذا حينما سُئل (ألبرت أنيشتاين) عن سرّ صيرورة اكتشافاته المتتابعة قال بكل وضوح (بعض الناس يقتلون أسئلتهم ليصبحوا كباراً، سرّي أني بقيتُ طفلاً) وترنّح أنيشتاين على أسئلته التي نمت ككرة الثلج معه منذ طفولته حتى فجّر نظرياته. ولعل الطفولة تعبّر عن إشكالية من عقد المجتمع الكبرى، التي يصعب أن تحسم بلمح البصر، خاصةً حينما نعلم أن للمجتمع تعقيداته السلطوية، والطفل بصفته الغائب الأكبر عن الحضور الفعلي في العالم كله، والعالم العربي خاصةً نوجز ملامح الغياب المرعب، والحضور السلبي والاستبدادي عبر الأرقام التالية: 1- الطفل لاينطق، تلك هي الأيقونة العمياء التي تحرّك العديد من الملاجئ الاجتماعية المتخلفة التي تزعم أنها عائلة تربوية، ويقتصر الدور الذي يلعبه الطفل على التعلم على فنون الطاعة العمياء والخضوع التام، ويلقى بأسئلته التي توصف ب(الطفولية) عرض الحائط، وتظلّ الجمل الكبرى لا تصدر إلا عن الكبار، مستبعدين نظريات الأطفال وما يكتنزونه من أسئلة طازجة ربما تحرّك أجهزة تعليمية. وفي حوارٍ فلسفي ماتع جرى بين (ميشيل فوكو) و(جيل دلوز) عام 1972 الذي تمحور حول السلطات الاجتماعية وأدوارها السيئة، والأدوار العكسية التي تمارسها الدور المتزعمة للأنشطة التربوية، يتحدث جيل دلوز قائلاً: (إذا توصل الأطفال إلى توصيل وتبليغ مطالبهم أو إبداء احتجاجاتهم في الحضانات وفي أسئلتهم فإن ذلك يكفي لإحداث انفجار في منظومة التعليم). 2- ما يخيفني أكثر، أن (تنقرض الطفولة) وذلك عبر التسابق المحموم من قبل الأطفال لإزالة مرحلة الطفولة وطمسها، ذلك نظير توافق اجتماعي مركّب على انتقاص الطفولة، صحيح أن لسطوة مفهوم (الأكبر) كسلطة نافذة المحرّك الأبرز للرغبة بالكبر، وهذا مفهوم، إلا أن الأكثر سحقاً لمرحلة الطفولة أن تتحول تلك النطف البريئة إلى مشروعات مفتوحة للكبار ليعيثوا فيها فساداً، فالطفولة مرحلة ليست ناقصة لأن مرورها بكامل مراحلها من دون تشويه أو إعاقة يعتبر الدافع الأبرز لإيجاد جيل متزن خالٍ من العقد النفسية تجاه الرجولة أو الأنوثة، كانتقام من مرحلة \"الطفولة\" لتصبح لفظة (حينما كنتُ طفلاً) لعبة الكبار للعبث بعواطف الصغار. إن مرحلة الطفولة كوكب لاهب، شهب أسئلته لاتعوّض ووأد الأسئلة العلمية الفطرية لا يجب أن يتم عبر إجابات اجتماعية، من هذه الزاوية نتجه نحو المحافظة العامة على مرحلة الطفولة لتمرّ كما هي. 3- تدعي مؤسسات التعليم أنها تكتشف المواهب، وحتى الآن لا تعطي مفهوماً علمياً (للموهبة)، وفوجئت بعد محاورات مع من ضمتهم مؤسسات المواهب إلى ملاحقها بأن السمة العامة للموهبة تدور حول عدد من الأطر السطحية، فاكتشاف موهبة الطفل لا يأتي مع (الاستبداد) فإذا أردنا أن نكتشف إمكانياته الحقيقية فلنراقبه قبل دخوله للمدرسة - هذا في حال كان البيت واعيا ً- حينها نكتشف الإمكانيات الحقيقية للطفل التي يمكن أن تكون دليلاً للمدرسة تستهدي به في تعاملها معه بعد الالتحاق بها، الملاحظ أن الطفل يدخل المدرسة وكأن المرحلة التي قضاها في البيت ملغيّة، فلا تعتمد عليها مؤسسات التعليم التي تغفل عن آخر مستجدات العلم التربوي، من المفترض أن تكون مرحلة الطفل التي قضاها بين أهله من صلب اهتمام مؤسسات التربية والتعليم وهذا مالا يفعل للأسف في ظلّ نظريات تربوية خشبية عفى عليها الزمن وفي ظل جمود صارخ لعقول تزعم تخصصها بالتربية متترسة بشهادات أكاديمية لا يستطيعون حتى إبرازها لنا لقراءتها وملاحظتها، فلم يجرؤ الكثير منهم على طباعة رسائلهم الأكاديمية المزعومة، التي يتترسون بكونها من \"الخارج\" وأنها من جامعات موثوق بها. بينما-تلك الجامعات التي يتترس بشهاداتها بعض التربويين- هي من عرض الجامعات التي تتلقف شبابنا الآن وتمنحهم الشهادات رغبة في ابتلاع الضمانات المالية من دون أي تدقيق، لذا لا تتعجب أن يدرس أحدهم الماجستير والدكتوراه في بلد غربي، ثم يعود وهو لا يجيد التحدث بالانجليزية، إذن السرّ في الضمان المالي الذي تبحث عنه الجامعات، وفي الشغف البدوي والقروي بشهادة من أوربا أو أمريكا يبزّ بها الأقران وليصبح مديراً ، أو مميزاً من الأشخاص الذين تنتفض لهم المجالس، أو ليجد ما يكتبه في مذكراته بعد أن يشتعل الرأس شيباً على القاعدة الأدبية المضحكة (كنتُ في) خاصة وأن الكثيرين ممن ذهبوا للدراسة في الخارج لديهم معدلات فاشلة من جامعاتنا في الداخل هنا نكتشف حجم الكارثة المضحكة المبكية في آنٍ واحد. ولهذا مقالة خاصة سأفردها عن \"محنة الازدحام\" في التركيبة الاجتماعية السعودية. 4- يستمرّ فيلسوف الاختلاف جيل دلوز وفي معرض حواره آنف الذكر، ويستعرض كتاب فوكو (ولادة السجن) ويقول: (ليس السجناء وحدهم الذين يعاملون كالأطفال، ولكن الأطفال كذلك يعاملون كالسجناء، الأطفال يخضعون لطفولة ليست لهم بهذا المعنى فإن المدارس شبيهة بالسجون)!.اه. سؤالي: لماذا يكره الأطفال أجواء التعليم أكثر من بغض الكبار لها؟ إنه سؤال ضخم، ولكن وفق مقاربة يسيرة فإن ملكة الطفل الزئبقية المتحررة التي تحاول المدرسة القبض عليها (تقاوم)! تقاوم العتاد المتنوع من أسلحة الإخضاع، فيدخل الطفل للمدرسة ويخضع. أما ما يشحن به عقله من تصورات وأفكار وطرق تعامل فهذه لا يسعها المقال وتحتاج إلى مؤلفات. ثمة حقيقة مرعبة: المدارس تشبه السجون!. 5- إن تركيبة المجتمع وعبر أشكال متعددة تغتال مرحلة الطفولة عبر ضربها بمرحلة الكبر، وكأن الكبار كافة لم يكونوا يوماً ما أطفالاً، إن غياب \"الطفل\" عن ميادين البحث الفعلي والعلمي أدى بالكبار إلى تلك الجنايات، الطفولة مرحلة حرة مفتوحة يجب أن يمارس فيها الطفل الاكتشاف ويمحّص بعدها عن أجوبته، لذا آن لنا أن نطلب من المجتمع بكافة تراكيبه أن يمنح للطفل فرصة البحث والاحتفاظ بالأسئلة، الطفولة جزء من الصيرورة الاجتماعية. وربما فقدت براءة الحياة بعد أن اغتلنا الطفولة، ولعل اغتيال الطفولة أحد أسباب تقهقرنا الأساسية حتى استحال المجتمع بكل فئاته إلى مجتمع خاص بالكبار. حتى المقالات لم تعد تدافع عن \"الأطفال\" الفئة المسحوقة في مجتمعنا القاسي في كافة تعاملاتهن والقاسي جداً على من يستقل بأسئلته وتفكيره. فهد بن سليمان الشقيران. [email protected]