الحمد لله المشرِّع لعباده طريق الوصول إليه، الواضِع في شَرعِه أنواعاً مِن وسائل القرْب لدَيه، والصلاة والسلام على أفضل العابِدين، وأعلم عالِم بطرق مناجاة إله العالَمين. وبعد، فإن الصلاة أولى ما تقرَّب بها المتقرِّبون، وإن مِن أوكَدِها صلاة الجمعة، غير أن الأخبار مصرِّحة بسقوط فريضتِها عند أداء صلاة العيد في يومِها؛ وقد تنوَّعت أحاديث هذه المسألة، وحمَلت دلالات متعدِّدة، ومِن ثَمَّ فقد اختلَف العلماء على إثر مظنَّات الثّبوت والدلالات، فأرَدْنا كتابة حاصِل ما يمكِننا الوقوف عليه وفَهمه -بنظرنا الكَليل- مِن أقوالهم وما سَطروه لنا؛ علَّنا نَظفَر بما يبصِّرنا أولاً بالعمل، ثم بما نبصِّر به مَن أحسَن الظنَّ فينا إذا سأل. وقد رأينا أن نتناول هذه المسألة بإيراد آراء العلماء وأدلَّتِهم، مع التعليق عليها بما يَظهر للفقير الكاتب، ثم بيان الرأي الذي يَميل إليه كاتب هذه السطور، ونسأل الله التوفيق والسداد. تصوير المسألة اختلَف العلماء عند اجتِماع العيد والجمعة في يومٍ واحد على أربعة أقوال: الأول: لا تَسقط الجمعة بفعل العيد على كل أحد. والثاني: تَسقط الجمعة على أهل القرى ممن لَيسوا في بلد الجمعة ويَسمعون النداء. والثالث: يَسقط وجوب الجمعة، ويخيَّر المكلَّف بين الجمعة والظهر. والقول الرابع يقول: بسقوط وجوب الجمعة والظهْر معاً بفعل العيد. وبيان هذه الآراء في الآتي: القول الأول: وجوب الجمعة على كل أحد: وهو رأي الحنفيَّة والمالكية؛ قال: الحَصكَفيّ الحنَفي: (ويوم العيد والجمعة، فلو اجتمَعا لم يلزم إلا صلاة أحدهما، وقيل: الأَولى صلاة الجمعة، وقيل: صلاة العيد، كذا في الْقهسْتَانِيِّ عَنْ التّمرْتَاشِيِّ، قلت: قد راجعت التّمرْتاشِيِّ فرأيته حَكاه عن مذهب الغَير، وبصورة التمريض فتنبَّه) الحصكفي، الدر المختار: (2: 166). قال ابن عابدين – معلقاً -: (قوله: "عن مذهب الغير"؛ أي: مذهب غيرنا، أما مذهَبنا فلزوم كلٍّ منهما، قال في "الهداية" – ناقلاً عن "الجامع الصغير" -: "عيدان اجتمَعا في يوم واحد، فالأول سنَّة، والثاني فريضة، ولا يترَك واحد منهما) ابن عابدين، رد المحتار: (2: 166)، وينظر نصّ: المرغيناني.
وهو أحد قَولَي المالكيَّة، قال في "الذخيرة": (ولا تسقط الجمعة بصلاة العيد إذا كانا في يوم، خِلافاً لابن حنبل؛ محتجّاً بما في أبي داود أنه – عليه السلام – قال: ((قد اجتمَع في يومكم عيدان، فمن شاء أجزأه مِن الجمعة، وإنا مجمِّعون)) لنا آية وجوب السعي، ولأنه عمل الأنصار في سائر الأقطار، وأما الخارج عن المِصْر ففي الكتاب لا يَتخلَّفون، وروي عنه: يتخلَّفون؛ لإذن عثمان – رضي الله عنه – لأهل العوالي، ولما في انتظارهم أو رجوعهم مِن المشقَّة) في "الهداية شرح البداية": (1: 85). ووجوب الجمعة حتى على مَن هو خارج البلد هو المنقول في "المدوَّنة"، ونصّها: (كان مالك يقول: لا يضَع ذلك عنه ما وجب عليه مِن إتيان الجمعة، وقال مالك: ولم يَبلغني أن أحداً أَذِنَ لأهل العوالي إلا عثمان، ولم يكن مالك يرى الذي فعل عثمان، وكان يرى أن مَن وجبَت عليه الجمعة لا يَضعها عنه إذن الإمام، وإن شهد مع الإمام قبل ذلك مِن يَومِه ذلك عيداً) القرافي: الذخيرة: (2: 355 – 356). واستدلّوا بأن الأصل والثابت هو: وجوب الجمعة، والأخبار عامَّة فيها، ولم يَرِد ما يعارض هذا الأصل، وما أورده المخالِف مِن التخيير لم يَثبت، كما أن سقوطها على مَن هو خارج البلد في أثر عثمان الآتي قد يراد بهم مَن لا يَسمعون النداء؛ كما فسَّره الشافعي.
وما رواه مسلم عن عبدالله بن عمر، وأبي هريرة أنهما سَمِعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول على أعواد منبره: ((ليَنتهِيَنَّ أقوام عن وَدْعِهم الجمعات، أو ليَختِمنَّ الله على قلوبهم، ثم ليَكوننَّ مِن الغافِلين)) المدونة الكبرى: (1: 153)، وينظر: منح الجليل شرح مختصر. وقد أجمَع المسلمون على وجوب الجمعة؛ قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن الجمعة واجبة على الأحرار البالِغين المقيمين الذين لا عذْر لهم" خليل: (2: 306). فما كان كذلك لا يعارَض بأحاديث غير ثابِتة، أو على الأقلِّ تكلِّم فيها.
القول الثاني: رخصَة الاكتِفاء بالعيد عن الجمعة لغير الإمام مع وجوب الظهْر: مذهب الحنابِلة سقوط وجوب الجمعة عمَّن صلى العيد، وأيَّده ابن تيمية، وهو رأي الزَّيديَّة أيضاً. ينظر الأحكام في الحلال والحرام: (1: 142) للهادي بن الحسين. ط2، صعدة: مكتبة التراث الإسلامي، 1420 ه – 1999م، والاعتصام بحبل الله المتين: (2: 58) للقاسم بن محمد، عمان: الجمعية العلمية الملكية، 1403 ه – 1983م. قال ابن قدامة: (وإن اتَّفق عيد في يوم جمعة سقَط حضور الجمعة عمَّن صلى العيد، إلا الإمام فإنها لا تَسقط عنه إلا أن لا يجتمع له مَن يصلي به الجمعة، وقيل في وجوبها على الإمام روايتان) المغني: (2: 105). وقال البهوتِيّ الحنبَليّ: (وإذا وقع عيد في يومِها – أي: الجمعة – سقَطت – أي: الجمعة – عمَّن حضَره – أي: العيد – مع الإمام في ذلك اليوم، وأما مَن لم يصلِّ العيد أو صلَّاه بعد الإمام فيلزمه حضور الجمعة، فإن اجتمَع العدد المعتبَر أقيمتْ، وإلا صلّوا ظهراً لتحقّق عذرِهم إلا الإمام فلا يَسقط عنه حضور الجمعة) شرح منتهى الإرادات: (1: 319). واستدلوا بما رواه أبو داود في سننِه، عن أبي هريرة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه مِن الجمعة، وإنا مجمِّعون)).
وفي رواية زيد بن أرقم قال: شهدت مع النبي – صلى الله عليه وسلم – عيدَين اجتمَعا، فصلى العيد، ثم رخَّص في الجمعة وقال: ((مَن شاء أن يصلِّي فليصلِّ))، وقد روي هذا الحديث بأسانيدَ فيها مقال:
قال ابن عبدالبر: (وهذا الحديث لم يَروِه – فيما علمت – عن شعبة أحد مِن ثقات أصحابه الحفاظ، وإنما رواه عنه بقية بن الوليد وليس بشيء في شعبة أصلاً، وروايته عن أهل بلده أهْل الشام فيها كلام، وأكثر أهل العلم يضعِّفون بقيَّة عن الشاميِّين وغيرهم وله مَناكير، وهو ضعيف ليس ممَّن يحتَج به) التمهيد لابن عبد البر: (10: 272). ومما يزيد احتِمال ضَعفِه تقييده في رواية – وإن كانت ضَعيفةً – بأهل العوالي:
قال ابن حجَر: (ورواه البيهقي مِن حديث سفيان بن عيَيْنة عن عبدالعزيز موصولاً مقيَّداً بأهل العوالي، وإسناده ضعيف) تلخيص الحبير: (2: 88). وهذا الحديث نصٌّ جليٌّ في المسألة؛ غير أن في ثبوته – كما قلنا – مقالاً، وقد بيَّن طرقَه وعِلَلها عدد من العلماء؛ منهم: ابن الملقِّن في "البدر المنير".
وأجاد في بيان طرقِه وما فيها مِن عِلَل فضيلة الشيخ: أبو عبدالرحمن فوزي بن عبدالله بن محمد الحميدي الأثَري في رسالته: "قلائد المرجان في تخريج حديث إذا اجتمع عيدان" موجود في موسوعة الكتب الإلكترونية المسماة بالشاملة). وإن كان النوويّ قد صرَّح بأن الحديث جيِّد الإسناد المجموع للنووي: (4: 412). فإن أسانيده يَصعب تَصويبها، ومِن ثمَّ حكَم الألبانيّ بضَعفِ الحديث إلا أنه قواه بمجموع طرقه ينظر كتابه: (تمام المنة). ، والله أعلم.
القول الثالث: يسقِط وجوب الجمعة عمَّن خارج البلد – ممَّن يَسمع النداء -: وهو قول عند المالكيَّة، والمعتمَد المقرَّر عند الشافعيَّة؛ قال النووي: (فرْع في مذاهِب العلماء في ذلك: • قد ذكَرْنا أنَّ مَذهبَنا وجوب الجمعة على أهل البلد، وسقوطها عن أهْل القرى) المجموع: (4: 412). واستدلّوا بما جاء في "صحيح البخاري": (قال أبو عبَيد: ثم شهدت مع عثمان بن عفان فكان ذلك يوم الجمعة، فصلى قبْل الخطبة، ثم خطب فقال: يا أيها الناس، إن هذا يوم قد اجتمَع لكم فيه عيدان، فمن أحبَّ أن يَنتظِر الجمعة مِن أهل العوالي فليَنتظر، ومَن أحبَّ أن يَرجِع فقد أَذنت له).
والعوالي: القرى التي بقرْب (من) المدينة مِن جِهة الشرق، وأقربها على أربعة أميال، وقيل: ثلاثة، وقيل: اثنان ينظر البدر المنير: (4: 591). القول الرابع: سقوط الجمعة والظهر معاً بفعل العيد: وهو مشهور عن عبدالله بن الزّبَير – رضي الله عنهما – وقال به عطاء.
ورغم تبادر بعْدِه؛ لأنه يسقِط حتى الظهر، والتي تجب على المعذور عن الجمعة، ومِن ثمَّ قال البغوي في "شرح السنة": (وأما صَنيع ابن الزبير، فإنه لا يجوز عِندي أن يحمَل إلا على مذهب مَن يرى تقديم صَلاة الجمعة قبْل الزوال) البغوي، شرح السنة: (4: 223). أقول رغم هذا التبادر لبعدِه إلا أن في الآثار ما يقوِّيه، وسياق كلام النووي في "المجموع" يدلّ على إقراره بقوَّته؛ قال النووي – رحمه الله -: (واحتجَّ عَطاء بما رواه هو قال: "اجتمع يوم جمعة ويوم عيد على عهْد ابن الزبير فقال: عيدان اجتمَعا فجمَعهما جميعاً فصلَّاهما ركعتَين بكرَةً، لم يَزِد علَيهما حتى صلى العصر"؛ رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم، وعن عطاء قال: صلى ابن الزبير في يوم عيد يومَ جمعة أول النهار، ثم رحْنا إلى الجمعة فلم يَخرج إلينا، فصلينا وحْداناً، وكان ابن عباس بالطائف فلما قَدِم ذَكرْنا ذلك له فقال: "أصاب السنَّة"؛ رواه أبو داود بإسناد حسن أو صحيح على شرط مسلم، واحتج أصحابنا بحديث عثمان، وتَأوَّلوا الباقي على أهل القرى لكنَّ قول ابن عباس مِن السنَّة مرفوع وتأويله أضعَف) المجموع: (4: 413). الرأي الذي يَميل إليه الباحث: يَميل جامع هذه الورَيقات – عفى الله عنه – إلى الرأي الثالث القائل بسقوط وجوب الجمعة على مَن هو خارج البلد، مع القول بأن الرأي الثاني القائل بجواز فعْل الظهر بدلاً عن الجمعة لمَن صلى العيد فهو رأي معتبَر في الخلاف؛ لقوَّة احتِمال الدليل له كما تقدم؛ فيمكن تقليده خصوصاً لمَن اشتَغل بزيارة أو ذبْح أو غيره؛ أما القول الرابع القائل بسقوط الجمعة مع الظهر لمَن صلى العيد، فرغم احتِمال بعض الأدلة له إلا أنه لم يعمَل به فيَنبغي تركه.
ويؤيِّد مَسلكَنا هذا الأمور الآتية: 1- قطعيَّة ثبوت فرضيَّة الجمعة، وما قابَله مِن احتمال عدم ثبوتٍ في حديث اجتِماع العيد والجمعة والرّخصَة في تَركِها؛ لما في أسانيده مِن مَقال، وقد بيَّن طرقَه وعِلَلها عدد مِن العلماء منهم ابن الملقِّن في "البدر المنير"، وقد أجاد في بيان طرقِه – كما قدَّمنا – وما فيها من عِلَل فضيلة الشيخ: أبو عبدالرحمن فوزي بن عبدالله بن محمد الحميدي الأثَري في رسالته: "قلائد المرجان في تخريج حديث إذا اجتمع عيدان"، كما قدَّمنا.
2- رغم أن القول الثاني هو المقرَّر المشهور عند الحنابلة، وابن تيمية – رحمه الله – وهو المختار عند اللجنة الدائمة بالسعودية، فقد خالفه الشيخ العلامة عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين – رحمه الله – ونصّ فتواه: (إذا اجتمَع يوم العيد ويوم الجمعة فالجمهور على وجوب صلاة الجمعة، وعدم سقوطها؛ لأن صلاة العيد سنَّة والجمعة فريضَة، ولعلَّ الأقرب أنه يَسقط حضور الجمعة عن أهل القرى النائية الذين يشقّ عليهم تَكرار الحضور؛ لبعد مَساكِنهم، ولا تَسقط عن القريب الذي يَسمع النداء وليس عليه مشقَّة) فتوى رقم 10082) موقع الجبرين على الإنترنت. 3- ما ذكرَه ابن عبدالبرِّ مِن أن سقوط الجمعة بالعيد مهجور ينظر: حاشية ابن عابدين: (2: 166) وهذا أيضاً يجعل رأي ابن الزبيركالمتَّفق على خلافِه، وثبوت أثر عثمان في "صحيح البخاري" يدلّ على مرجوحيَّة القول بوجوب الجمعة على كل أحد، ولذلك فقد استدرك في "منح الجليل" على إمامِه مالك – رحمه الله – فقال بعد ذِكْرِه حديث السراويل في الحج -: (وقال مالك – رضي الله عنه – في "الموطَّأ" في السراويل: "لم يَبلغْني هذا"، ابن عبدالسلام: "وعندي أن هذا مِن الأحاديث التي نصَّ الإمام – رضي الله عنه – على أنها لم تَبلغْه إذا قال أهل الصِّناعة: إنها صحَّت، فيجب على مقلِّدي الإمام – رضي الله عنه – العمل بها كهذا الحديث، وحديث أَذِنَ الإمام لأهْل العَوالي إذا وافَق العيد الجمعة، انظر: التوضيح وابن غازي) منح الجليل: (2: 306). 4- ومَسلَك عدم سقوط وجوب الجمعة هو رأي أكثر الفقهاء ينظر: المغني: (2: 105). والأكثريَّة وإن لم تكن دليلاً إلا أنها تعطي نوعاً مِن القوة.
والخلاصة: المسألة خلافيَّة اجتهاديَّة تَحتمِلها الأدلَّة، فالأولى للمسلم الحريص على زيادة الخير فعل الجمعة، خصوصاً مع قرب المساجد في زمَننِا هذا، وتوفّر وسائل المواصَلات، فالأولى به صلاة الجمعة، حتى ولو أدى به أن يتأخَّر عن خطبة الجمعة – فقد قيل بأن حضورها فرض كفاية – غير أن هناك فسْحة لأصحاب الأعذار والمَشاغِل ممَّن يَذبَحون الأضاحي، أو ممَّن يريدون زيارة أقاربهم خارج البلد أن يَتركوا الجمعة ويصلوا الظهر تقليداً لمذهب الحنابِلة، وهذا لغير الإمام، أما هو فالأولى القَول بلزوم الجمعة عليه؛ ليَؤمَّ مَن أراد صلاة الجمعة مِن الناس ونقصد بالإمام إمام الصلاة. نسأل الله أن نكون على صواب، وأن يَنفع بهذا المسطور كاتِبَه وقارئه، آمين، وصلى الله على نبيِّنا محمد وآله وصحبه أجمعين.