الانتقال من الحياة الرعوية والبدوية إلى الحياة المدنية المتحضرة، وفرض قيم المدينة والدولة والقانون مكان قيم البادية والأعراف والقبيلة بصورة مفاجئة، بفعل الطفرة النفطية في ثمانينيات القرن الماضي، حرقت عددا من مراحل التدرج الطبيعي لعملية التمدن الإنساني، بحيث دلفت المدنية والحضارة والأسمنت المسلح والطرق السريعة إلى الصحراء في سنوات قليلة دون أن يكون هناك مواكبة موازية لهذا الانتقال في وعي وثقافة المجتمع. فانتقل الإنسان فجأة من بيئة الغارة على الآخرين وغزو مضاربهم، وبيئة القوة والشجاعة في قطع الطريق على القوافل، وبيئة «الذيبان» وهو الرجل الذي يأخذ حقه بيده، وبيئة العار والمهانة على من يأكل من عمل يده وعرقه، والشرف لمن يأكل من غنيمة القوة والغارة على الآخرين، انتقل الإنسان من هذه البيئة فجأة إلى الدولة والنظام والقانون والكسب من خلال العمل الشريف. فوجد الإنسان نفسه يمارس قيمه البدوية الراسخة وتقاليده العرفية ولكن في مدينة ودولة ومؤسسات مدنية قائمة، وبما أن قيم التمدن والحضارة والقانون تناقض قيم البداوة وأدبياتها، ظهرت شخصية «الذيبان» من جديد من خلال الفساد المالي والإداري، حيث التربح غير المشروع وعمليات نهب المال العام أو استغلال السلطة للمنفعة الخاصة، تحت مبدأ «إذا سرقت اسرق جمل»، وعمليات الثراء السريع من خلال الاستغلال غير المشروع للسلطة والمنصب والصلاحيات الإدارية المخصصة للتنمية والتطوير، فكم تكشف لنا من خلال سيول جدة، وغرق أنفاق الرياض، حجم الفساد المهول في مشاريع الإنشاء والتصريف والمقاولات والأرقام الفلكية التي أنفقت عليها وذهبت في «ثقب» أسود. بلا شك فإن الفساد في الأصل هو نتيجة اختلال قيمي نابع من فساد في الضمير، وهو موجود حتى في الدول المتقدمة، ولكن هذا الفساد إذا كان معززا بخلفية ثقافية تعود لما قبل المدنية وبشخصية «الذيبان» فإن الفساد المالي والإداري والمحسوبية وعمليات «شد لي وأقطع لك» ستصبح أكثر خطورة وأقل عرضة لتأنيب الضمير كونها حينئذ ستكون مبررة بثقافة «الحر – الصقر – ياكل بمخلابه»!.