ظل اللحام حتى وقت قريب حكرا على فئة الوافدين القادرين حسب وصفهم على القيام بالمهمة النارية أو الشاقة، أما الشباب السعودي فمحاصر بحاجز العيب أحيانا وحاجز عدم الخبرة في أحيان أخرى، وحاجز عدم المقدرة على المهمة الصعبة في أحيان ثالثة. ويبدو أن الأمر تغير بلا مقدمات، إذ فجأة طفقت مجموعات شبابية تحتضن بذراعيها ماكينات اللحام وتقاوم النيران النابعة من لحام الحديد بعرق الجبين. هناك في الجبيل يتغلب الصبر والعزيمة على الواقع الشبابي، فالعاملون ليسوا محترفين بقدر ما يعتزون بكونهم طلابا متدربين، يحاولون حمل شعلة العمل، فإن نجحوا فلهم المكسب، وإن تعلموا فلهم المستقبل. اتجه عدد من الشباب إلى مجال الصناعة، وإلى التخصصات الفنية والمهنية التي كانت في وقت سابق محل سخرية واستهزاء البعض منهم، بل أبدوا حماسا منقطع النظير، تاركين خلفهم النظرة القاصرة عن هذه التخصصات وعن المجال الصناعي بالتحديد. هم شباب طموح أدرك حاجة وطنهم إليهم، فلبوا مسرعين في جميع التخصصات الفنية والمهنية، خلعوا عباءة الخجل ونظرة بعض أفراد المجتمع القاصرة لهم، وأعلنوا أنهم قادمون للصناعة بجميع تخصصاتها ومجالاتها، فبعد أن كانوا في محل نظرة قاصرة لدى بعض أفراد مجتمعهم هاهم اليوم يقفون في معقل الصناعة تاركين للغير حرية إبداء آرائهم، غير مبالين بهم ولا بنظرتهم. اتجهوا يبحثون عن تلك التخصصات الصناعية والمهنية والتقنية في معهد الجبيل التقني الذي يعد اليوم من الركائز الأساسية في مدينة الجبيل الصناعية والذي بات خريجوه مطلبا كبيرا لكبرى الشركات الصناعية في المنطقة الشرقية وفي الوطن أجمع. يوم مفتوح بعد عناء الكثير من الدورات، وجد اللحامون السعوديون أنفسهم وجها لوجه أمام العديد من الشركات الكبرى في المنطقة الشرقية، في لقاء نظمته إدارة المعهد، ليكتشفوا حقيقة ما تعلموه، وأساور الذهب التي تحيط بمعاصمهم. هناك عرض طلاب المعهد بكل تخصصاتهم نماذج مبسطة وميسرة عن جميع ما يمكن أن يفعلوه، فما كان من الشركات إلا أن أبدت إعجابها بما رأت وما سمعت، فكانت العروض حاضرة، برهانا على الإعجاب، وتأكيدا على فتح الباب لكل من أراد خدمة الصناعة الوطنية. تخصص اللحام الطالب حسان التكروني، 20 عاما، كان يعتبر اللحام مجرد هواية، لكن حاجز الخوف سيطر عليه طويلا: «حسبت أن هذا المجال يحتاج إلى مهارة كبيرة، فتوقفت عن متابعته، وما إن تهيأت لي الفرصة في المعهد، حتى بدأت خوض المجال، وبالتالي تخصصت في اللحام، لم أشعر بالخجل بل شعرت أنه لا بد من خلع عباءة العيب التي تطاردنا، ونوقف نظرة المجتمع، خاصة أننا في مدينة صناعية كبرى تمثل جزءا كبيرا من اقتصاد الوطن، وتحتاج إلى دعم الشباب لهذا المجال». يشعر التكروني حاليا بالفخر والسعادة، بل ينوي الاستمرار فيه بالتعلم حتى أعلى الدرجات: «لا أبالي بتلك النظرة القاصرة لدى البعض عن هذا التخصص، ونحن في معقل الصناعة بالجبيل الصناعية، نريد العمل في مختلف المجالات الصناعية، تركنا الجامعات والتخصصات الإدارية وغيرها، وأقبلنا على تخصصات الصناعة الفنية والتقنية، وهذا هو الحال اليوم لدى شبابنا الذين نشجعهم على دخول هذا المجال». آلات صناعية وينظر عبدالله الغامدي، 22 عاما، إلى تخصصه في مجال صيانة الآلات الصناعية، على أنه بئر المستقبل: «اتجاه الشباب الآن لمجال الصناعة مهم في هذا التوقيت بالذات، فمجال الصناعة كبير وجميع التخصصات مطلوبة في كبرى الشركات بالجبيل الصناعية، ونأمل أن يحظى شبابنا بالعديد من الوظائف في هذه المصانع الكبرى، ونعرف أن نظرة المجتمع لنا كانت قاصرة ولكن بفضل طموحنا وشجاعتنا تغلبنا على هذه النظرة حتى أصبحنا الآن محسودين من بعض الشباب تجاه هذه التخصصات الفنية والمهنية في مجال الصناعة». خراطة ومعادن ويعتبر فيصل العمري، 20 عاما، تخصصه في خراطة وتشكيل المعادن منحته دفعة لتعرف مستقبله العملي: «رغبتنا منذ البداية حفزتنا للتقدم لهذا المعهد الذي نراه مناسبا لنا، نحن الشباب السعودي الطامح، وطموحي إكمال دراستي في هذا التخصص، وأشيد بدور إدارة المعهد على هذا التأهيل والتدريب والتطوير، واليوم المفتوح الذي التقينا فيه الشركات هو تأكيد على مواصلة الدعم لنا بعد التخرج، لضمان الوظيفة في كبرى الشركات في المنطقة الشرقية». حاسوب آلي ودفعت الرغبة في مجال الحاسوب، الطلاب ماجد القحطاني ومهند العدواني وطارق الورثان، إلى اقتفاء أثر التخصص: «تخصصنا لرغبتنا في التعمق في مجال الحاسب الآلي، لأنه يعد لنا هواية، فتعلمنا كيفية الرسم الهندسي عن طريق الحاسب الآلي، والذي يحتاج إلى مهارة جيدة من الطالب، ونسعى إلى أن نوفق في كبرى الشركات التي تستقطبنا بعد التخرج، ونأمل أن نتجه بالإضافة إلى هذه الشركات إلى بعض الأعمال الخاصة بنا، كفتح مؤسسات تعنى بالرسم الهندسي عن طريق الحاسب الآلي ونعمل لحسابنا الخاص من خلالها». صيانة سيارات وأشار عبدالرحمن حسين، 22 عاما، المتخصص في صيانة السيارات، إلى أهمية التشجيع من قبل المجتمع، ليخوض الشباب التجربة دون خوف سواء على نفسه أو على مستقبله: «كانت النظرة القاصرة مزعجة بالنسبة إلي، ولكن لعلمي اليقيني أن هذا هو التخصص الذي أهواه تغلبت على هذه النظرة، كما ساندتني مساعدة أساتذتي بالمعهد، كما أن لوالدي أيضا فضلا كبيرا في اختيار هذا التخصص، والآن أتمنى الالتحاق بكبرى الشركات بالجبيل الصناعية التي تهتم بهذا التخصص، وأعلن للشباب أنني فخور بالعمل في صيانة السيارات، خاصة أنه مجال يحتكره الأجانب، ولكن بعد فتح إدارة المعهد هذا التخصص حظي بإقبال الشباب السعودي عليه وهذه بادرة جيدة». تخصصات مفيدة ويبرهن سعد الشهراني، 22 عاما، على نجاح المعهد في استقطاب الشباب بفتح المزيد من التخصصات: «تخصصات المعهد المختلفة فتحت المجال بنسبة كبيرة للشباب السعودي في دخول غمار مهن كانت النظرة لها سابقا مخجلة، أما الآن فهي تعد من أهم التخصصات التي يطلبها الشباب السعودي وتحظى بمتابعتهم وميولهم المختلفة، فاختلفت نظرتنا نحن الشباب إلى الصناعة وبتنا نبحث عن تلك التخصصات الفنية والمهنية، ونريد العمل والتدريب والتطوير فقط، ولدينا الطموح في العمل في أي تخصص وفي أي شركة أو مصنع، فالمستقبل الآن صناعي، وننصح الشباب بالاتجاه إلى كل التخصصات الصناعية بالمعهد والعمل بلا خجل». إقبال على اللحام ويشير المدرب بالمعهد تخصص هندسة ميكانيكية في مهارة لحام صناعي المهندس محمد القحطاني، إلى أن تخصص اللحام يحظى حاليا بإقبال العديد من الشباب، رغم حساسيته وخطورته: «شبابنا من خلال هذا التخصص لمست لديهم الرغبة الطموحة والكبيرة في تعلم اللحام والخوض في مجال الصناعة من خلال الالتحاق بكبرى الشركات، أو في المصانع في الجبيل الصناعية التي نفخر بوجود شباب كبير من خريجي معهدنا وتخصصنا، ونحن نؤهل الشباب في العام الأول التحضيري، ثم يتخصص الطالب في العام الثاني، ولاحظنا أن بعض الطلاب لا يزالون خجولين من هذا التخصص بسبب نظرة المجتمع أو الواقع الاجتماعي لهم، لكن النسبة لم تتعد 5 %، لكننا استطعنا تهيئة الأجواء الإبداعية لهم وتوفير كل الطقوس المناسبة لهم وللتخصص، ورأينا الإبداعات تتوالى من قبلهم». وعبر عن سعادته برؤية جميع الخريجين من الشباب يعملون حاليا في سوق العمل في كبرى الشركات، معتمدين على الله تعالى، ثم على ما تعلموه من مهارة وتدريب: «ما زلنا بحاجة لهؤلاء الشباب ليخدموا وطنهم من خلال هذه التخصصات أو أي تخصص فني وتقني فمجال الصناعة أمامهم كبير وينتظرهم». لحام 1 وبين أن الطلاب استطاعوا في ثلاثة أسابيع تلحيم سيارة أطلقوا عليها (لحام 1): «هي من صنع الدارسين في تخصص اللحام، حيث تم تركيب جميع محتويات السيارة عن طريق اللحام، ولم نستخدم أي قطعة خارجية إلا محرك الدباب والكفرات فقط، وجميع محتويات السيارة داخلية الصنع، بأيدي شباب التخصص، وهذا يدل على الفكر الذي يحملونه، حينما وفر لهم المعهد الأجواء الإبداعية للعمل، ونأمل من خلال الأيام القادمة أن يكون العديد من الاختراعات القادمة من خلال شباب هذا التخصص». جوائز عالمية ويعتبر رئيس قسم العلاقات الصناعية بمعهد الجبيل التقني عبدالله اليامي، أن طلاب المعهد تخرجوا بحافز الفخر، وتجنبوا وهم الحصول على سيارة ووظيفة جاهزة بلا عناء: «استطعنا تغيير هذه النظرة لديهم، وعند دخولهم غمار هذه التخصصات الفنية تغيرت النظرة كليا عنهم وأبدوا تفاعلا كبيرا، والسبب أن التخصصات كانت مغيبة عنهم من قبل، ولكن حين دخولهم معترك هذه التخصصات في المعهد وتهيئة الأجواء المناسبة لهم أبدعوا واستطاعوا المنافسة على كبرى المسابقات الخليجية والمحلية، فشباب المعهد حصلوا على المراكز الأولى على مستوى الخليج في مهارة اللحام، كما حصدوا المراكز الأولى في المهارة نفسها على مستوى المملكة، وتلقينا قبل عدة أشهر دعوة للمشاركة في مسابقات في كندا في مجال اللحام، ونستطيع أن نقول: إن شبابنا قادم في المجالات والتخصصات الصناعية، ونرى فيهم مستقبلا مشرقا، وما وجد معهد الجبيل التقني إلا لخدمة شباب هذا الوطن، وبالتالي سعودة جميع الوظائف وإحلال الشباب السعودي في كل المجالات الصناعية وتخصصاتها وسنرى في المستقبل كيف سيبدع شبابنا في مجال الصناعة» .