تمتاز الحضارات التي مرت بالإنسانية عبر تاريخها بالكثير من السمات والخصائص التي تميزها عن غيرها من الحضارات , وقد تكون تلك السمات متعلقة بالمظهر كالزي الدارج لدى معاصري تلك الحضارة, وقد تكون في المعتقد وتمتد لتشمل العلوم التي عاصرت تلك الحضارة وجعلتها مميزة وخالدة في عقول الذاكرين لها والقارئين عنها , وإن عدنا للحياة الجاهلية التي كانت موجودة في ربوع الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام لاكتشفنا أن الشعر وفصاحة اللسان هي ابرز السمات المميزة لسكان الجزيرة العربية في تلك الحقبة الزمنية ولكن ربما يتغافل الكثيرون أو ينسى احد أغرب وأبرز العلوم التي كان يمتاز بها العرب في تلك الفترة والتي ميزتهم عن غيرهم من الحضارات المعاصرة أو السابقة وحتى اللاحقة لها , واعني بذلك علم القيافة والذي اشتهر العرب فيه أثناء العهد الجاهلي ولم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم بل اعتبره قرينة ذات نفع كبير في أمور تحديد الأنساب , ولعلم القيافة نوعان : قيافة الأثر وقيافة النسب وتلك الأخيرة هي التي سأخصها بالجانب الأكبر من حديثي , وقيافة النسب تعني الاستدلال على الأنساب والقبائل التي ينتمي لها الأشخاص عن طريق النظر لآثار أقدامهم , بل وصل الحال بأهل الخبرة في ذلك العلم إلى الدرجة التي يمكن من خلالها معرفة المرأة الثيب من البكر والحامل من غيرها عن طريق النظر إلى وقع خطواتها , ولا شك أن هذه المقدرة العجيبة والتي امتاز بها بدو الجزيرة العربية جعلتهم يستدلون على الكثير من الأمور المتعلقة بأنساب العرب وانتساب الأفراد لقبائلهم , وللأسف فإن هذا العلم المقرون بالمهارة والدقة اندثر بشكل كلي في الوقت الحاضر ولم يصبح هناك من هو على دراية كاملة به وربما يرجع السبب في ذلك إلى اختلاط الأجناس والشعوب ببعضها البعض في الجزيرة العربية بالإضافة إلى تمدن البدو وسكنهم في المدن وتركهم أعراف البادية والقبلية مما أدى إلى انقراض العارفين بخبايا هذا العلم. وحاليا ومع الثورة التكنولوجية التي نعاصرها ظهرت طرق أخرى يمكن من خلالها معرفة انساب الأشخاص ومدى انتمائهم لآبائهم لعل اشهرها وأبرزها هو تحليل الحمض النووي أو ما يعرف اختصاراً (DNA) وهي طريقة علمية متقدمة يمكن من خلالها الاستدلال عن انتساب الولد لأبيه في حالة حصول خلاف على نسب المولود , ونظراً للدقة الكبيرة التي يحققها تحليل ال (DNA) ولعدم وجود بدائل أخرى فقد أصبح تحليل الحمض النووي هو الوسيلة العصرية والمثالية حاليا لتحديد الأنساب. ولكن ماذا لو افترضنا أن علم القيافة مازال على قيد الحياة حتى يومنا هذا وأن له رجاله وعلماءه الذين يحافظون عليه , هل كان سيظهر خلاف دائم بينهم وبين الأطباء حول الطريقة المثلى لتحديد الأنساب ؟ وهل ستنشأ فتنة في المجتمع بسبب هذا الخلاف ؟ لاشك أن الإجابة على تلك الأسئلة أو التمثيل عليها بحالات معاصرة أمر لا يمكن تداركه خلال هذا المقال ولذلك فإن للحديث بقية في المقال القادم. والله من وراء القصد