أثار إقدام شبان سعوديين على الانتحار في الآونة الأخيرة، كثيراً من التساؤلات عن أسباب إقدامهم على ارتكاب هذا الفعل المحرّم شرعاً، والمرفوض اجتماعياً، والمكروه إنسانياً.. فما الذي يدفع البعض إلى الانهزام واليأس وقتل أنفسهم؟ هل هي الأمراض النفسية؟ أم إدمان مخدّرات؟ أم تردي الأوضاع الاقتصادية؟ وإلى أي مدى يعد الانتحار في المجتمع السعودي ظاهرةً تتطلب العلاج الفوري؟ "سبق" تناقش الانتحار في المجتمع السعودي من خلال الاستطلاع التالي: فعن مدى تحول الانتحار إلى ظاهرة في المجتمع السعودي، تقول ل "سبق" الأخصائية النفسية الدكتورة ندى الوايلي: "الانتحار في المجتمع السعودي من الأمور النادرة ويعد - وفق التقديرات العالمية - في أدنى مستوياته وليس ظاهرة أو مشكلة كبيرة؛ فأفراد المجتمع، ولله الحمد، تحكمهم تعاليم الدين الإسلامي التي تحرّم هذا الفعل المشين، وترفضه قيم المجتمع ولا تقبله باعتباره وصمة عارٍ على أسرة المنتحر". وتضيف أن بعض الدراسات أوضحت أن المنتحرين في المجتمع السعودي نوعان إما مكتئب نفسي نتيجة وجود نقص بعض العناصر الكيماوية في المخ أو مدمن على المخدّرات باعتبارها تضعف قدرة الفرد على التحكم في مشاعره وفي رشده واتخاذ القرار. وتابعت: إن عدم وجود إحصائيات دقيقة عن نسبة المنتحرين تجعل الرؤية حوله غير واضحةٍ مع التأكيد على أن هناك ارتباطاً قوياً بين إدمان المخدرات والكحول والانتحار، وأن هناك مَن تأثروا بتجربة انتحار سابقة في محيط أسرتهم". وفي السياق ذاته، ينفي أستاذ مكافحة الجريمة والإرهاب بجامعة القصيم الأستاذ الدكتور يوسف الرميح، أن يكون الانتحار في المجتمع السعودي أصبح ظاهرةً، ويعتبره مشكلةً صغيرة برزت للعيان في الآونة الأخيرة بسبب زيادة التغطية الإعلامية، وارتفاع الكثافة السكانية إلى 3 إضعاف تقريباً، وتزايد استقدام العمالة الأجنبية بقيمها وسلوكياتها الخاطئة؛ ما أعطى انطباعاً أنها متفشية، وفي الواقع هي غير ذلك. وقال ل "سبق": إن ضعف الخوف من الله، وتعاطي المخدّرات والخمور، والأمراض النفسية، والبطالة والضغوط هي الأسباب الرئيسة لبعض حالات الانتحار. وأشار إلى أن تناول المنتحرين المخدّرات والمواد الكحولية يشجعهم أكثر على الانتحار؛ لأن العاقل لا يرتكب مثل هذه الحماقات وهو في كامل وعيه. وقال إن "المجتمع السعودي في الغالب يخاف الله، وفيه تواصلٌ اجتماعي جيد بين الأسر والأفراد، ومستشفيات الصحة النفسية متوافرة لعلاج المرضى.. لذا حالات الانتحار قليلة". وحول مَن يرى أن للظروف الاقتصادية المتردية دوراً في الإقدام على الانتحار، قال ل "سبق" الخبير الاقتصادي وعضو مجلس الشورى الأسبق الدكتور عبد العزيز داغستاني: "نعم الفقر قد يدفع الشاب العاطل عن العمل إلى الانتحار، فعندما يقرأ عن رجل أعمال سعودي اشترى طائرةً خاصّة أو أن تاجراً سعودياً يبعثر أمواله على شراء الشراب والسهرات هنا وهناك.. إلخ، يُصاب بحالةٍ من القهر والظلم؛ لأنه لا يستطيع إيجاد مصروفه اليومي وغيره يلعب بالأموال، فيلجأ الشاب الضعيف إلى التخلص من حياته، والمفروض أن يسعى ويعمل أكثر لتحقيق طموحاته". لكنه عاد ليؤكد أهمية معالجة الدولة مشكلات الشباب، ودعم البرامج الاجتماعية والاقتصادية لتلبية احتياجات المواطنين، وتأمين فرص العمل للشباب؛ لكي يجدوا مصادر للدخل تخفّف أعباء الحياة عليهم. من جهته، أوضح ل "سبق" أستاذ علم الاجتماع الدكتور عبد الله الفوزان، أن الانتحار في المجتمع السعودي موجودٌ؛ لكنه ليس بكثافة المجتمعات الأخرى. وقال: "هناك عوامل أسهمت في ارتفاع معدلات الجريمة والعنف العائلي والانتحار في المجتمع السعودي، أهمها انحسار الوازع الديني نتيجة البُعد عن مصادر التشريع الإسلامي، إضافة إلى مؤثراتٍ إعلاميةٍ وترويحيةٍ أفسدت علاقة الإنسان بخالقه، وكذلك سيطرة الحياة المادية على إنسان هذا العصر. وأضاف: "أصبحنا نسمع حكايات غريبة تحدث في المجتمع لم نكن نتوقع حدوثها مطلقاً، والسبب في رأيي يعود إلى تأثير الثقافات الأخرى في الثقافة المحلية من خلال الانفتاح الفضائي، واستقدام العمالة الوافدة غير الصالحة ما أدّى إلى انحسار قيم الخير والمحبة والرحمة وشيوع قيم الفردية والأنانية والمصلحة الذاتية". لكن ماذا عن الذين حاولوا الانتحار وفشلوا؟ ماذا يقولون عن الأسباب التي دفعتهم إلى ارتكاب هذه الفعل؟ وهل سيعاودون ارتكابها مرة أخرى لو تعرّضوا للظروف ذاتها؟ تساؤلاتٌ حملتها "سبق" إلى إحدى المدن الطبية بمدينة الرياض، حيث ترقد فتاة سعودية حاولت الانتحار ببلع علبة دواءٍ كاملة 40 حبة دفعةً واحدةً وتمّ إنقاذها، تقول: "أنا نادمة جداً، ولا أصدق أنني قمت بذلك.. لكنني تعرّضت لضغوطٍ نفسية كبيرة و"انقهرت" بسبب رفض والدي زواجي من شاب رغم محاولتي العديدة تليين قلبه، والصبر عليه، والدعاء له، لكنه رفض.. وفي لحظات مأساوية ابتلعت علبة حبوب دواء السكر كاملة لأتخلص من حياتي، ولم أفق إلا في المستشفى حيث أجروا لي غسيل معدة، بالطبع أنا نادمة.. نادمة.. نادمة لأنني كنت سأخسر دنياي وآخرتي، والله يغفر لي ذنبي". وقال أحد الشبان ل "سبق": "نعم حاولت الانتحار وأطلقت النار على نفسي لكنني فشلت في آخر لحظة وخفت.. فمواجهة الموت وقتل النفس من أصعب الأمور وأقساها.. الطلقة اخترقت الجزء الأيمن من البطن وأصابت الكلية وخرجت من الظهر، في بداية المحاولة كنت أريد إطلاق النار على رأسي، لكنني لم أملك الشجاعة". وعن سبب رغبته في الانتحار، قال: "ضاقت بي الدنيا.. وخسرت مصدر رزقي في مغامرة مالية وتخلى عني الأهل والأصدقاء، وأصبحت مريضاًُ بالاكتئاب وأردت التخلص من معاناتي". ومن زاوية شرعية يوضح الشيخ عبد المحسن العبيكان ل "سبق"، أن مَن يقوم بهذا الأفعال وينتحر هو مريضٌ نفسي وجب علاجه. وأكّد أنه لا يجوز الإقدام على الانتحار أو حتى التفكير فيه وهذا منهيٌّ عنه وواضحٌ بنصوص القرآن والسُّنة، لذا على المؤمن أن يستحضر إيمانه ويحذر من مثل هذا العمل عندما يواجه أي مشكلةٍ في حياته ولا يلجأ إلى الانتحار؛ لأنه يؤدي به إلى جهنم والهلاك والعذاب الأليم. وقال العبيكان: نهى الخالق -سبحانه وتعالى - عن قتل النفس، ففي سورة النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)، فالنفس ملكٌ لله وليس لأحدٍ أن يقتل نفسه. كما بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المنتحر يعاقب بمثل ما قتل نفسه به. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَن تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن تحسَّى سمّاً فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً).