يمكن أن يصبح الواقع مجسدا في صور مختلفة وننظر إليه كواقع متفرد له سماته الخاصة، وهذا ما تناولته كشهادة روائية تحت عنوان الخيال الكتابي ومتغير الواقع: الشخصية الروائية مثالا. منطلقا بأن الأشياء تولد من رحم الخيال، فكل الأفكار العظيمة والسقيمة كانت في زمن من الأزمان جنينا في رحم مخيلة ما، حتى إذ اكتمل نموها خرجت إلينا كائنا مستقلا بذاته يسير في الدروب بحثا عن إثبات وجوده الخاص.. وما بين الولادة والوجود تحدث عشرات الأحداث تفضي بعضها للبناء وبعضها للتقويض، وفي كل مرحلة من مراحل نموها تتشكل وفق مستهلكيها ومريديها ومعارضيها. هل نحتاج لمراجعة هذه الكلمات، حسنا ليعد كل منكم -الآن- بمراجعة سريعة لقصص ولادة فكرة أو اختراع ما. سنجد أن كل الأفكار والمخترعات لم تكن سوى هاجس خيال تشكل وانتقل من هلامية اللاوجود إلى صلادة الواقع.. إن الوجود الكامل -بكل معانيه- سكن المخيلة وحين نزور ذلك الوجود نقتطع منه جزءا يسيرا ونخرج به للواقع كمنتج ابتكاري، ونمنحه خاصية الابتكار في واقعنا لأننا لم نلتفت لوجودها الأصلي، فالخيال المصنع الحقيقي لإنتاج الحياة ذاتها، إلا أننا نتعامل مع هذه القوة الدافعة والمانحة باستهانة كبيرة فنفقد لذة الزيارة والاكتشاف الدائم. وفي مختبر الكتابة تحدث تفاعلات لعناصر عديدة لا يمكن حصرها إذ بالإمكان توقع عشرات الصيغ للنص الواحد ويصبح تدخل الكاتب للجم تلك التفاعلات وإظهارها في شكلها النهائي الذي يظهر مطبوعا هو تقديم صورة واحدة لإفرازات المخيلة بينما واقعها قبل الكتابة كان يشي بالتعددية... فهل ما يكتب هو واقع أم متخيل.؟ وهذا السؤال وبهذه الصيغة انهيار للعملية الكتابية إن أردنا تقيدها بما نحب أن نكون عليه كقراء ،لأن القارئ يرغب دائما بالتعامل مع الواقع لكي تستقيم في داخله البناء الحياتي لوجوده بينما الكاتب أثناء الكتابة يبحث عن تفاعل عناصر الكتابة لإنتاج مركب جديد - وهي استعارة للديالكتية بين الفكرة والواقع كما عبرت مخيلة هيجل في صورتها النهائية- فالمركب النهائي للكتابة يتعامل معه القراء بواقعيته وليس بمتخيل الكاتب، ومن هنا تغدو العلاقة بين المكتوب والمتخيل معدومة، وحين أقول معدومة فالقصد منه انعدام احتماليات ظهور العمل بصيغ أخرى كان من الممكن أن تظهر لو أن الكاتب غير في كيميائية المتخيل.. وليس من السهولة العودة للخلف لمعرفة كم هي الصيغ المحتملة التي عبرت متخيل الكاتب أثناء الكتابة، فالمكتوب أصبح واقعا وحياة منفصلة بذاتها.. وأجدني في أحيان كثيرة متذكرا أقدار ومصائر تلك الشخصيات الروائية التي كتبتها، وملاما من قبل بعض القراء بأسئلة متلاحقة: لماذا أنهيت حياة الشخصية الروائية تلك، أو لماذا اخترت لها هذا المصير، وهي أسئلة منتمية لثقافة الفرد منا وفق ما تختزنه ذاكرته من قيم ومبادئ، واللوم هنا لوم لمخيلة الروائي كون الشخصية الروائية خرجت من واقعها الورقي إلى واقع الناس كشخصية تبحث عن وجودها المادي، وقد تكون باحثة عمن يتعاطف مع وجودها المغاير للقيم السائدة في المجتمع. وفي هذه النقطة تحديدا أجد طارق فاضل -بطل رواية ترمي بشرر- يحمل لي ضغينة لن تنفع معها كل حجج تبرير تفاعلات مختبر الكتابة، وسبب ضغينته أنه خرج من متخيل كان يتواطأ مع الكاتب بالبوح له بألم الوجود وتداعي ذاته وتساقطه الداخلي كلحظة لن تمتد أبعد من متخيل فإذا بالكتابة تثبت ذلك المتخيل ويصبح شخصية ورقية روائية تنتقل من محيطها المكاني إلى فضاء أوسع مختلف الثقافات ومتباين في إطلاق الاحكام..فطارق فاضل لم يكن يتوقع أن تحمله الرواية لمستويات كشف أوسع مما كان يريد أثناء البوح المتخيل، وحين تم تثبيته كواقع رفضه الجميع وتحول الجميع إلى عابث بما كان يحمله من تداعيات... فهل يستطيع الكاتب الاعتذار لشخصياته المتخيلة عن ما لحقها من أذى القراء؟ أم يتنصل الكاتب من شخصياته التي بصمت بسلوكياتها على جدار حياته.؟