لا أعتقد أن فناً من الفنون يمكن أن يعبر عن حقيقة الأمة ووجدانها، وصولا إلى روحها القومية كما هو الحال مع الشعر. فعبر هذا الفن يتم التعبير عن أدق الخلجات التي تعتمل في دواخل الجماعات الإنسانية، ويتم تناقل الأسرار والكنوز الروحية عبر لغة يحملها الشعراء مثل شعلة الأولمب من جيل إلى جيل، ويشهدون بواسطتها على حلاوة النصر كما على مرارة الهزيمة، على اتقاد الأحلام والمواقف البطولية كما على نضوب الحماس وذبول الآمال وفقدان الاتصال مع التاريخ. يؤكد الناقد الإنجليزي سيسيل باورا هذه المقولة التي تكاد ترقى إلى رتبة الحقيقة الدامغة فيرى بأن الطبيعة العميقة لشعب ما إنما تظهر في شعره أكثر مما تظهر في تاريخه. ففي الشعر الفرنسي يظهر بشكل جلي الطراز الأنيق والبارع للحياة الفرنسية. وعلوم ما وراء الطبيعة الحاضرة بقوة في ألمانيا تجد نظيرها في الشعر الألماني الذي يعول على التحرق للحب والتقصي المعرفي. وأسلوب الحياة الإسبانية يكشفه شعر «جدير» بكرامة الأمة وعاطفتها. أما مواطنه الشاعر ت.س. إليوت فيرى في الشعر الشيفرة الملغزة لروح الأمة التي تستعصي على الترجمة أكثر من أي فن مماثل. إذ ما من فن يتسم بالقومية اتساما «عنيدا» كفن الشعر، بحسب إليوت، «ولذلك فإنه لأسهل أن نفكر بلغة ما من أن نشعر بها». على أن العرب لم يغفلوا هذه الحقيقة ولم يسقطوها من حسبانهم في أي وقت من الأوقات. ولذلك فهم منذ عصورهم الأولى قد انتبهوا إلى أن ذلك الحضور الزمني المتواتر لإيقاعات الشعر وأوزانه هو المعادل الطبيعي لتواتر المكان الصحراوي وتناغم مفازاته وكثبانه. وهو أيضا ما يعكس باحتدامه أو شجوه العليل قلق الجماعة وتوهجها القلبي والروحي وتوقها الدائم إلى التوحد. ليس صدفة تبعا، لذلك أن يقول الصحابي الجليل ابن عباس «إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله فاطلبوه في الشعر فإنه ديوان العرب». وليس صدفة أن يخلص أبو عثمان الجاحظ في «البيان والتبيين» إلى ربط اليونان بالفلسفة وصناعة المنطق وربط العجم بطول الفكرة والاجتهاد والرأي وإلى ربط العرب بالمقابل بالبديهة والارتجال والإلهام والشعري حيث العربي «يصرف همه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام ويمتح على رأس بئر أو يحدو ببعير أو عند المنافلة أو عند صراع في حرب». وعلى كل شاعر عربي شاب أن يدرك لدى الشروع في الكتابة أنه يسند ظهره إلى إرث لا ينفد من الشاعريات التي سبقت والتي رفدت الأمة بأثمن ما تملكه من مدخرات اللغة وذهب التعبير. والوفاء لهذا الإرث لا يكون بمحاكاته وتقليده الببغائيين من جهة ولا بقتله والانقلاب عليه من جهة أخرى بل بتمثله وهضمه واستيعابه كخطوة لا بد منها على طريق الإضافة والمغايرة والتجاوز.