يقف العراق اليوم على عتبة منعطف جديد قد يقرر مسألة الصراع المتفاقم بين أهله على توزيع الثروة والسلطة ويمتحن قدرتهم في الحفاظ على وحدة بلدهم وبقائه. فقد بدأت الفترة الأخيرة تشهد ظهور تحالفات وائتلافات تنذر بتغيير جذري في المشهد العراقي الذي مازال يتشكل منذ سقوط بغداد. فالتركيبة السياسية التي جاءت برئيس الحكومة الحالي نوري المالكي إلى السلطة مهددة بالانهيار بسبب ميل هذا الأخير إلى الاستفراد بالحكم وإقصاء حتى شركاءه الذين سايروه في الالتفاف على نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة. من المعروف أن ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه المالكي جاء ثانيا في عدد المقاعد البرلمانية بعد القائمة العراقية التي يقودها رئيس الوزراء السابق إياد علاوي في انتخابات العام 2010، إلا أن إصرار المالكي على التمسك بالسلطة، مع توفر دعم إقليمي قادته إيران، مكن هذا الأخير من تحييد نتائج الانتخابات والاستمرار في الحكم. لكن المالكي كان يدرك مع ذلك أنه لا يستطيع تجاهل بقية الكتل السياسية، خاصة تلك التي عارضت استمراره. فأغرى القائمة العراقية ببضعة مناصب لضمان قبولها منها منصب رئيس البرلمان ونائب رئيس الحكومة ونائب رئيس الجمهورية، كما وافق على إحداث هيئة أطلق عليها اسم المجلس الأعلى للسياسات الاستراتيجية على أن يترأسه إياد علاوي وتكون له صلاحيات مكافئة لصلاحيات رئيس الحكومة. أما الأكراد الذين لعبوا الدور الرئيس في عقد هذه الصفقة في عاصمتهم أربيل فقد احتفظوا بحصتهم السابقة في الحكومة فضلا عن رئاسة الجمهورية إلى جانب وعود بحل مشكلة كركوك. لكن المالكي ما لبث أن انقلب على هذا الاتفاق وراح يحاول الاستفراد بالحكم عبر التخلص من خصومه السياسيين دفعة واحدة. فنائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي مطارد بتهم مختلفة، أما نائب رئيس الحكومة صالح المطلك فقد تعرض لحملة شعواء أسفرت عن نزع معظم صلاحياته، فيما جرى التخلي عن فكرة إنشاء المجلس الأعلى للسياسات الاستراتيجية وبالتالي استبعاد علاوي من الشراكة المزعومة. أما الأكراد فكان نصيبهم هم الآخرون التضييق والعزل ما جعل رئيس حكومة إقليم كردستان مسعود البرزاني يهدد بالانفصال. فما الذي دعا المالكي إلى أن ينحو هذا المنحى ومن أين جاءت كل هذه الثقة لفتح جبهات على جميع شركائه في الحكم وفي وقت واحد؟ لا شك أن الخروج الأمريكي من العراق أواخر العام الماضي وبالطريقة التي تم بها لعب دورا أساسيا في إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه. لقد فهم المالكي أن انسحاب القوات الأمريكية كان بمثابة صك استسلام لإيران واعترافا لها بمكانتها الخاصة في العراق و تأكيدا لعجز واشنطن عن التأثير في موازين القوى المحلية ومن ثم تخليا واضحا عن حلفائها. ونتيجة لذلك راح المالكي يعتمد بشكل متزايد على حلفائه الإيرانيين في تصفية خصومه سياسيا في الوقت الذي محضته فيه إيران دعما كاملا وعلى كل الصعد كان آخرها محاولة تعزيز مكانته الإقليمية والدولية عبر اقتراح بغداد عوضا عن اسطنبول مكانا لاستضافة المحادثات السداسية حول الملف النووي الإيراني. من جهة أخرى، نجح المالكي خلال سنوات حكمه الست الماضية في تركيز القرار الأمني والسياسي في يديه، ومن خلال المماطلة في تعيين وزراء أمنيين تمكن من وضع شخصيات قيادية تدين له بالولاء في مفاصل الأجهزة الأمنية والعسكرية. فالمالكي فضلا عن كونه القائد العام للقوات المسلحة مازال بعد نحو عامين على تشكيله حكومته الثانية يحتفظ بحقائب الدفاع والداخلية والأمن القومي (أي الاستخبارات). أخيرا، تمكن المالكي بسبب زيادة إنتاج العراق من النفط وارتفاع أسعاره من الحصول على مداخيل مالية هائلة (قدرت العام الماضي ب 112 مليار دولار) استخدم جزءا كبيرا منها في تعزيز نفوذه الشخصي في مختلف قطاعات الدولة والمجتمع. هذه السياسات تؤكد أن المالكي رهن نفسه لعقلية ماضوية ثأرية تعكس رغبة مكبوتة في الاستئثار والتشفي والانتقام. وبدل أن يعمل وفق رؤية أنه رئيس لحكومة كل العراق، أمضى المالكي الشهور الخمسة عشر الأخيرة من عمر حكومته الثانية يكرس نفسه بإصرار زعيما لحزب أو تيار انتصر على جزء من وطنه وشعبه. بيد أن فرط ثقته بنفسه وبقدرته على إقصاء الآخرين هو ما سيؤدي إلى سقوطه بعد أن انفض حلفاؤه من حوله وتصدع الائتلاف الذي وضعه في السلطة.