أول ما خطر لي حين فوتحت بشأن الانضمام إلى أسرة «عكاظ» ككاتب أسبوعي هو التصادي الواضح بين اسم الجريدة وبين اسم ذلك السوق القديم الذي اختاره عرب الجاهلية ليكون مكان التقائهم الجامع ومحطة استراحتهم من عناء الحرب وأهوالها ومركز تبادلهم التجاري ومباهدتهم الشعرية والخطابية. والحقيقة أن الرنين الذي تركه هذا الاسم في أذهان العرب وأسماعهم لم يكن مضخما أو خلبيا بأي حال من الأحوال. فقد ورد في أمهات الكتب ومظانها كالقاموس المحيط وصبح الأعشى بأن قبائل العرب كانت تجتمع في هذا السوق «فيتعاكظون» أي يتفاخرون ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر، يقيمون على ذلك شهرا ويتبايعون ثم يتفرقون. ورغم أن الحياة العربية في تلك الفترة حفلت بأسواق مماثلة من مثل ذي المجاز وحباشة والشحر وبدور وصحار إلا أن عكاظ كان أهمها وأشهرها جميعا. وقد ظلت هذه الشهرة راسخة في الوجدان العربي جيلا بعد جيل حتى بلغت التسمية حدود الرمز متجاوزة دلالتها الزمانية والمكانية الأولى لتطلق على كل سجال فكري وسياسي وثقافي متباين المنطلقات والآراء أو على كل احتفال شعري وأدبي حاشد. على أن اللافت في هذا السياق هو أن مفهوم السوق في ذلك الزمن كان يختلف تمام الاختلاف عن مفهومه اليوم الذي يكاد يقتصر على الجانب الاقتصادي. فالأسواق كانت أماكن لعقد المعاهدات والمخالفات وللنظر في المنازعات والجرائم المرتكبة وللتحكيم بين المتخاصمين. وقد رأى جواد علي في كتابه القيم «تاريخ العرب قبل الإسلام» بأن سوق عكاظ يدين بشهرته الواسعة وتميزه عن باقي الأسواق إلى عوامل عدة، من بينها قرية من مكة وورود الحجاج إليه قبل بدء الحج ووقوعه في أرض يتكلم أهلها باللغة التي نزل فيها الوحي. على أن كل ذلك لم يكن ليؤتي أكله لو لم يتحول السوق إلى حاضرة إبداعية كبرى يتطارح فيها الشعراء قصائدهم وتحدد من خلالها مراتبهم وقاماتهم ومنازل فحولتهم المتفاوتة، حتى إذا أظهر أحدهم ما ينر به أقرانه على مستويات الجمال والنضج والنخيل كتبت قصيدته بماء الذهب وعلقت على أستار الكعبة. بدا إحياء سوق عكاظ بهذا المعنى إحياء لأحد أجمل الرموز الذي تختزنه الذاكرة الجمعية العربية في أعماقها. وليس صحيحا من وجهة نظري أن الإسلام قد وضع حدا للسوق بوصفه أحد معالم الجاهلية التي أخذ على عاتقه إزالتها لاتصالها ببعض الطقوس الوثنية القديمة كما ورد في «تاج العروس» بل إن هذا النوع من الأسواق قد بدأ يفقد أهميته بالتدريج بفعل ظهور الإسلام وقدرة المجتمع المديني في مكة والمدينة على تجاوز نظام المبادلات القبلي وتوحيد نظام السوق وفق شروط أكثر تطورا وتعقيدا. على أن ما يظل من عكاظ هو الجانب الأكثر إضاءة الذي سمح للإبداع، الشعري بوجه خاص، لأن يتحول إلى احتفالية جماعية تنتصر لأكثر ما في اللغة العربية من سطوع جمالي وقدرة على الإيحاء. ربما لهذا السبب دون سواه وجدتني أشعر باعتزاز بالغ إزاء حصولي قبل عام ونصف على لقب «شاعر عكاظ» وبعيدا عن النرجسية المعروفة لدى الشعراء كان أكثر ما أفرحني هو الحدث بحد ذاته، حيث أتاح المهرجان الفرصة الملائمة لتعقب خطى الأسلاف والإصغاء بالقلب إلى ترجيعات أصوات الشعراء الأوائل الذين صاغوا للروح العربية قلادة من ذهب لا يخمد بريقها. ولعل ما أحزنني بعد ذلك هو أن يتم حجب الجائزة في عامها الفائت، ولأخطاء فادحة في الإعداد والتواصل الإعلامي، في الوقت الذي تغص فيه الساحة الشعرية العربية بعشرات من الشعراء الكبار. قد تكون هذه الإشارة الأخيرة موضع نقاش لا مكان له في هذه العجالة، لكن ما أنا بصدده الآن هو اعتزازي الموازي بالانضمام إلى أسرة الجريدة المتميزة التي باتت بدورها محلا «لنعاكظ» الأقلام والمواقف والأفكار التنويرية الجريئة، محققا بذلك شرف الانتماء إلى عكاظين اثنين لا إلى عكاظ واحدة!.