أمير تبوك يواسي أبناء أحمد الغبان في وفاة والدهم    أمير دولة الكويت يصل إلى الرياض    11قطاعًا بالمملكة يحقق نموًا متصاعدًا خلال الربع الأول ل 2024    وكيل محافظة الزلفي يدشّن فعاليات أسبوع البيئة    «وقاء نجران» يبدأ حملة التحصين ل246 ألف رأس ماشية ضد مرض الحمى القلاعية    برئاسة وزير الخارجية.. «اللجنة الوزارية»: نرفض اجتياح رفح.. يجب وقف تصدير السلاح لإسرائيل    ساعة أغنى رُكاب "تيتانيك" ب1.46 مليون دولار    تخصيص 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية دولية    النصر يؤمن مشاركته في السوبر السعودي    صدور الموافقة السامية علي تكليف الأستاذ الدكتور عبدالله بن عبد العزيز التميم رئيساً لجامعة الأمير سطام    رسمياً.. الزي الوطني إلزامي لموظفي الجهات الحكومية    مؤتمر أورام الكبد يوصي بإيجاد منصة موحدة لتجميع المعلومات عن أورام الكبد في الدول العربية    نائب وزير الخارجية يستقبل رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي    وزير الاقتصاد والتخطيط: المملكة أوجدت العديد من الفرص التنموية    السعودية ترسم خارطة جديدة للسياحة الصحية العالمية    محافظ خميس مشيط يدشن مبادرة "حياة" في ثانوية الصديق بالمحافظة    "واحة الإعلام".. ابتكار لتغطية المناسبات الكبرى    أمطار تؤدي لجريان السيول بعدد من المناطق    وفاة الأمير منصور بن بدر بن سعود بن عبدالعزيز آل سعود    «هندوراس»: إعفاء المواطنين السعوديين من تأشيرة الدخول    دعوة أممية لفرض عقوبات على إسرائيل    طابة .. قرية تاريخية على فوهة بركان    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته الإنسانية.. استمرار الجسر الإغاثي السعودي إلى غزة    لرفع الوعي المجتمعي.. تدشين «أسبوع البيئة» اليوم    أمين عام «أوبك»: نهاية النفط لا تلوح في الأفق    وزير الإعلام ووزير العمل الأرمني يبحثان أوجه التعاون في المجالات الإعلامية    فريق طبي سعودي يتفوق عالمياً في مسار السرطان    برعاية الملك.. وزير التعليم يفتتح مؤتمر «دور الجامعات في تعزيز الانتماء والتعايش»    العرض الإخباري التلفزيوني    وادي الفن    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    وزير الدفاع يرعى تخريج الدفعة (82) حربية    أخصائيان يكشفان ل«عكاظ».. عادات تؤدي لاضطراب النوم    4 مخاطر لاستعمال الأكياس البلاستيكية    وصمة عار حضارية    التشهير بالمتحرشين والمتحرشات    السجن لمسعف في قضية موت رجل أسود في الولايات المتحدة    الأخضر 18 يخسر مواجهة تركيا بركلات الترجيح    الهلال.. ماذا بعد آسيا؟    حكم و«فار» بين الشك والريبة !    فيتور: الحظ عاند رونالدو..والأخطاء ستصحح    الاتحاد يعاود تدريباته استعداداً لمواجهة الهلال في نصف النهائي بكأس الملك    ألمانيا: «استراتيجية صامتة» للبحث عن طفل توحدي مفقود    انطلاق بطولة الروبوت العربية    استقلال دولة فلسطين.. وعضويتها بالأمم المتحدة !    زلزال بقوة 6.1 درجات يضرب جزيرة جاوة الإندونيسية    (911) يتلقى 30 مليون مكالمة عام 2023    تجربة سعودية نوعية    أمير الرياض يوجه بسرعة رفع نتائج الإجراءات حيال حالات التسمم الغذائي    الأرصاد تنذر مخالفي النظام ولوائحه    واشنطن: إرجاء قرار حظر سجائر المنثول    المسلسل    إطلاق برنامج للإرشاد السياحي البيئي بمحميتين ملكيتين    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أصبحت مستهدفات الرؤية واقعًا ملموسًا يراه الجميع في شتى المجالات    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    خادم الحرمين يوافق على ترميم قصر الملك فيصل وتحويله ل"متحف الفيصل"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأدب والمحاقلة.. قراءة في المشروع النقدي لمحمد الصفراني

يعد الدكتور محمد الصفراني صوتا نقديا سعوديا متميزا، امتدّ صداه من الخليج إلى المحيط، لما يحمله من مشروع نقدي وازن يروم تناول الأدب العربي الحديث من مداخل قرائية عصرية، تسعى إلى كشف طاقاته الجمالية والتداولية والحضارية.
ومما يقوي قراءة الصفراني للأدب الحديث، أنه يزاوج باقتدار بين النقد النصي والإبداع الشعري؛ وهو ما يمنحه ميزة الناقد الذي «دُفع إلى مضايق الشعر» كما عبّر أبو نواس قديما.
لقد ساعدت هذه المزاوجة وتلك المثاقفة في تقليب أرض الأدب العربي الحديث من منظور علائقي بيني، اصطلح عليه الصفراني ب«المحاقلة»، ورام منه إثراء التجربة النقدية الحديثة.
تتأطر الأعمال النقدية لمحمد الصفراني ضمن الدراسات البينيّة في سعيها الإبستمولوجي نحو تجاوز الرؤية التخصصية الضيقة التي هيمنت على الدرس النقدي، واقتراح إبدال جديد يؤمن بمد الجسور مع المعارف والعلوم المجاورة والمحيطة، للإفادة منها في قراءة الظاهرة الواحدة.
وعلى هذا الاعتبار، وظّف الباحث مفهوماً بينيّا مركزيا هو المحاقلة أو التحاقل، وقصد به «نقل مفاهيم حقل علمي إلى حقل علمي آخر واستثمارها في تحليله»، مما يمنح «للناقد الحوار والتفاعل مع مختلف الفنون والحقول المعرفية التي تحاقلت معها الظاهرة المدروسة، وتتطلبها دراستها في الوقت نفسه، وتتيح للناقد استعارة مصطلحات ومفاهيم من فنون وحقول معرفية متعددة، يثري بها ميدان النقد الأدبي نظريا وتطبيقيا، كما تتيح له مراجعة منظومة المناهج النقدية التي أنتجها النقد الأدبي قديما وحديثا، ليقف على مقدار تجاوبها مع تطور الإبداع الأدبي الذي تدرسه، ويرفدها بما يطورها ويوسّع آفاقها».
ولا بد من الإشارة إلى أن توظيف استراتيجية التحاقل مشروط بضوابط معرفية ومنهجية تؤول في المحصّلة إلى حاجة الموضوع المدروس إلى تدخّل حقل معرفي آخر أو حقول معرفية أخرى لمساندة التحليل وضمان كفاءته. ونستشف من استثمار الباحث لهذا المفهوم في كثير من كتاباته، أنه لا يقتصر على دراسة القضايا النقدية السهلة المكرورة، وإنما يغامر في تفكيك القضايا المركبّة التي تستدعي الانفتاح على مجالات معرفية متنوعة، انطلاقا من رؤية نقدية عابرة للتخصصات ومجافية للنزعة الشمولية.
استثمر الصفراني المحاقلة في قراءة الأدب العربي في تنويعاته المختلفة، فجاءت عبارة «بحث في المحاقلة» ملحّة على هذا الاستثمار في ثلاث دراسات نقدية هي: «التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث: بحث في المحاقلة بين الشعر والفنون» و«التشكيل البصري وعلم التجويد: بحث في المحاقلة بين التشكيل البصري وعلم التجويد» و«ما بعد الشمولية: الشهادة الأدبية في الأدب العربي الحديث: بحث في المحاقلة بين القانون والأدب».
وسنحاول تتبع أشكال توظيف المحاقلة في هذه الدراسات، بصورة مختزلة تهدف إلى بيان مركزية هذا المفهوم في المنجز النقدي للصفراني:
- المحاقلة بين الشعر والفنون:
درس الصفراني هذا الشكل التحاقلي في كتابه «التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث»، منطلقا من ملاحظة وجيهة ترى أنه «مثلما استقلت العلوم عن مظلة الفلسفة وتجاوزت مرحلتي الشمولية والتخصصية إلى فضاءات المحاقلة، تجاوز الشعر العربي الحديث حدوده الفنية، وقوالبه الوزنية، وبنياته الكلاسيكية والشكلية إلى الانفتاح على الفنون الأخرى، مبرهنا على ذوبان الحدود الفاصلة بين الفنون والحقول المعرفية»، وبنى على ذلك أهمية دراسة ظاهرة التشكيل البصري من رؤية تحاقلية، لاستجلاء هذا البعد الانفتاحي للشعر العربي الحديث.
وعلى الرغم من العقبات التي تعترض الدارس في هذا المجال، وخصوصا ما يتعلق منها بندرة الدراسات التي تعنى بكاليغرافيا الشعر الحديث، إلا أن استثمار الصفراني لاستراتيجية المحاقلة قاده إلى تجاوز هذا الإشكال، وساعده على تمكين الباحثين من منظومة مصطلحية وعُدّة إجرائية في قراءة التشكيل البصري للشعر الحديث.
ويعرف الباحث التشكيل البصري بأنه «كل ما يمنحه النص للرؤية سواء أكانت الرؤية على مستوى البصر/‏‏ العين المجردة، أم على مستوى البصيرة /‏‏ عين الخيال»؛ وهو لا يقصره على الرؤية البصرية كما جرت على ذلك عادة الباحثين، وإنما يوسع مداه ليمتد إلى الرؤية البصيرية الخيالية.
وتحضر استراتيجية المحاقلة في هذا الكتاب، لتربط التشكيل البصري بفنون ثلاثة وهي: الرسم بأنواعه الهندسية والفنية والخطية، والطباعة من خلال عتبات النص وتقسيم الصفحة والسطر الشعري وعلامات الترقيم، والسينما عبر اللقطة السينمائية والمونتاج والسيناريو.
ولست أدري لماذا لم ينفتح الصفراني على الدراسات السيميائية التي كانت ستثري فكرة الباحث، وتزيد من إضاءة جوانب الموضوع.. ويبدو أن الباحث أراد التركيز على التحاقل، وفعلا نجح في استثمار هذا المفهوم من خلال نقل عدد كبير من المصطلحات والمفاهيم من حقول فنية مختلفة إلى حقل النقد الأدبي، وبرهن بالملموس على أن التشكيل البصري في الشعر الحديث ليس مظهرا حداثيا متفرّدا كما يدّعي نقاده، وإنما هو وصل بين ماضي الثقافة الشفهية وحاضرها الكتابي، كما قدّم دراسة تستجلي الأبعاد الجمالية للتشكيل البصري، وتنصت إلى خصوصيات التشغيل والتوظيف من غير إسقاط أو تعميم.
- المحاقلة بين التشكيل البصري وعلم التجويد:
نبّه الصفراني في خاتمة كتابه السابق إلى أهمية الجانب الصوتي الأدائي في قضية التشكيل البصري، ووعد بتخصيص كتاب آخر يكمل رؤيته ويسيّج مشروعه وسمه ب«التشكيل البصري وعلم التجويد».
وسار هذا الكتاب في صياغة تحاقل بين التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث وعلم التجويد، منسلكا في مغامرة معرفية تتخذ من علم تجويد القرآن الكريم مرجعية للاستفادة والامتداد؛ وهو العلم الذي انحصر اشتغاله في المجال القرآني، ولم يجرؤ القدماء والمحدثون على محاورته وتجسيره مع معارف أخرى.. ولا شك أن هذا التحاقل يُحسب لمحمد الصفراني، ويدلّ على نباهته البحثية وكفاءته الاجتهادية في اجتراح منظورات دراسية جديدة واعدة، فضلا عن مدّ النقد الشعري بمنظومة من المصطلحات «التجويدية» القادرة على تجويد لغته الواصفة وممارساته النصية.
والواقع، أن الصفراني حاقل التشكيل البصري مع علم التجويد القرآني لدراسة البعد الصوتي والصمتي من جهة، ومع فن الإلقاء لتناول البعد الحركي التجسيدي من جهة أخرى. وإن كنت أود من الباحث إفراد دراسة مستقلة للتحاقل الثاني، حتى ينجلي هذا الجانب في مساحة أكبر، ويمتد المشروع القرائي في رباعية مستوعبة وتفصيلية إذا وضعنا في الحسبان دراسة مهمة أخرى يبشر بها الدارس تحاقل التشكيل البصري مع التكنولوجيا.
انطلق الباحث في كتابه من أربعة أسئلة مركزية هي: كيف يجسد التشكيل البصري سمة (صوتية أو صمتية) من سمات الأداء الشفهي من خلال علم التجويد؟ وكيف يتم إنتاج دلالة التشكيل البصري في الشعر من خلال علم التجويد؟ وكيف يجسد الشاعر سمة من سمات الأداء الشفهي الحركية عند كتابة نصه الشعري على الورق؟ وما أبرز الوظائف الفنية التي يؤديها تشكيل سمة من سمات الأداء الشفهي الحركية بصريا مكتوبة على الورق؟
والملاحظ أن هذه الأسئلة التأطيرية تنحو منحى عمليا (كيف..؟) وظيفيا (ما...؟)، لتجاوز الثقل النظري الذي تنوء به كثير من الدراسات النقدية العربية الحديثة. فالصفراني وظيفيّ حتى في فرشه النظري، إذ يحدد مداره بدقة، ويبعد عنه مختلف ضروب الحشو الكمي. فبعد أن درس الإشكالات التأصيلية والتعريفية والتحاقلية اللازمة في مهاده النظري، انتقل إلى الشق التطبيقي الذي تكوّنت مادته من أربع وعشرين مجموعة شعرية لعشرين شاعرا وشاعرة من المملكة العربية السعودية.
وخصّص الباب الأول من الكتاب لدراسة السمات الأدائية الشفهية الصوتية والصمتية من خلال تشكيلات المد والتفخيم والوقف والسكت في تنويعات شعرية دالّة، خلص منها إلى أهمية التحاقل مع علم التجويد في رده للنقد الأدبي بمصطلحات أصيلة قابلة لمنافسة المصطلحات الحديثة.
ويمضي الباب الثاني في بحث سمات الأداء الشفهي الحركية، مبرزا جوانب من «مسرحة القول» بتوصيف رولان بارت، ومتوقفاً عند ثلاث وظائف قابلة للإضافة والتوسيع وهي: التوكيد والتكميل والتنظيم.
- المحاقلة بين الأدب والقانون:يبدو أن المحاقلة ستتخذ منحى تطوريا في كتاب «ما بعد الشمولية: الشهادة الأدبية في الأدب العربي الحديث»، وفي هذا الصدد يصرح الصفراني: "وأجدني منصرفا إلى استراتيجية المحاقلة التي اختبرت فاعليتها النقدية في كتابين سابقين، وحصدت من ثمارها ما يدفعني إلى تطبيقها على موضوع الشهادات الأدبية في الأدب العربي الحديث، بعد تطوير المحاقلة بوصفها استراتيجية بينية بما يتناسب مع شكل الشهادات الأدبية ومضمونها".
والحق أن هذا التطوير سار في ثلاثة جوانب متكاملة: يتعلّق الأول بالانتقال من خطاب الشعر التخييلي إلى خطاب الشهادة المفهومي، ويتّصل الثاني بالتحول من تحاقل قريب جواري إلى آخر بعيد مفارق ينتج عنه حقل ثالث جديد، ويرتبط الثالث بالابتعاد عن تحاقل يقوده الناقد إلى تحاقل ينتجه المبدع.
وجدير بالتنويه، أن الصفراني أول باحث عربي تناول خطاب الشهادة الأدبية بالدرس والتحليل؛ فبعد أن حرّر هذا الخطاب من مجمل ملابساته ومشوشاته، حدّه بأنه: سرد تذكري قصير مدرك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة يشهد به شخص واقعي لإثبات حقائق أو ردّ دعاوى تتعلق بالمسار الأدبي لشخص أديب، أو موضوع أدبي، أو قضية أدبي. وأبدع الباحث مفهوما مطورا في الدراسات البينية هو "التناص الحقلي"، ساعده على إدراج الشهادة الأدبية في عملية تناصية مع حقل آخر؛ وهو ما وسّع من دائرة التناص نفسه، ليتجاوز معنى تشابك النصوص إلى معنى تشابك الحقول، مع الوعي بالطبيعة النوعية والأجناسية للحقلين، والتي تبرز في سؤالي المصداقية والأدبية.
لقد حقّق التناص الحقلي كفاءة واضحة في مقاربة خطاب الشهادة الأدبية، ومكّن الصفراني من بناء منظومة مصطلحية منخولة قادرة على المحاصرة النقدية لهذا الخطاب مبنى ومعنى.
يجزم قارئ المنجز النقدي للبروفيسور محمد الصفراني أنه أمام مشروع واعٍ وواعد له إضافته الخاصة للساحة النقدية العربية، لما يمتاز به من رؤية واضحة ومنهجية دقيقة وتطور إشكالي وتنكّف عن النزعة البروكيسية الإسقاطية، وكفاءة لافتة في الاستثمار الحيوي لمفهوم المحاقلة الذي بدا قادرا على تطويع منطقة المابين الجامحة والملتبسة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.