الشرق - السعودية لم تكن القسوة من طبعكم يوماً.. لكن كأن حبكم ولطفكم كان سداً يحجز سيل الأسى الجارف الذي انطلق هادراً بمجرد رحيلكم. أي قسوة تلك التي تجعلكم تغلقون في وجوهنا أبواب غرف قلوبكم الدافئة، تحملون مفاتحها وترحلون.. وتتركوننا لبرد الانتظار الذي لا يرحم! ترحلون بلا سابق تمهيد ولا تلويحة وداع.. تحملون حقائب البهجة وأثواب السعادة معكم ولا تتركون لنا سوى مرارة الذكريات. ترحلون فتتركون في زجاج الروح شرخاً وفي رغيف القلب قضمة وفي محجر العين دمعة لا تنطفئ. تحملون بعضاً منا معكم فنظل في حيرة الفقد وفتنة السؤال ومتاهة البحث عن ضمادة توقف نزيف الجرح الذي لا يندمل. ما عادت الدنيا من بعدكم كما كانت.. تشرق الشمس وتتفتح الأزهار وتغرد العصافير ولكن لا بهجة ضياء هناك ولا طرب ألوان ونغم هنا. ثمة شيء قد ذهب، شيء سلب الحواس قدرتها على تذوق النشوة، على الاستمتاع والبهجة، كل الألوان تضاءلت لتصبح بين الأسود والرمادي، وكل الأنغام تلاشت لتصبح أقرب لنواح مرير لا ينقطع. ما الذي فعلتموه بنا بذلك الغياب الأقرب للخديعة؟ لستم أنتم من بدلتم الدار والسكن؛ بل نحن.. نحن الذين أصبحنا غرباء وأيتاماً في دار تبدو كأنها ذات الدار، وشوارع تتظاهر بأنها ذات الشوارع وزوايا لم نعد نعرفها رغم أنها تدعي العكس. كل شيء تنكر لنا برحيلكم وأصبح نائياً وبارداً، وها نحن نعود أطفالاً صغاراً ضلوا الطريق في يوم مزدحم وينتظرون أباهم كي يعود ويجدهم.. لكننا نعرف أن لا أحد سيعود.. وأن غربتنا وانتظارنا دائمان كلعنة لا تزول! لا شيء في الدنيا يشعرني بمدى ضعفي ويتمي وقلة حيلتي مثل «المعلاة»*.. فرغم الشيب الذي يغزو قلبي ما زلت أشعر كلما دخلتها أنني ذات الطفل التائه الذي دخلها قبل ثلاثة عقود وهو يركض جاهداً للحاق بجنازة أبيه ويتخبط بين السيقان ولا يشعر به أحد. ما زلت أشعر بذات الغصة وذات الحيرة وذات الفقد.. بذات العتب على أبي الذي مضى سريعاً وتركني بعيدا خلفه لا أكاد أدركه. رغم كل تلك السنوات، ما زلت أخشى المعلاة.. ما زلت أستشعر قسوتها ووحشة رمالها، فكلما وطأتها بقدمي أعود وقد فقدت بعضي في جوفها.. أخرج أشكو ألم الجراح الغائرة.. الجراح التي على عمقها واتساعها... لا يكاد يراها أحد! * المعلاة: مقبرة لأهالي مكة قرب الحرم