بدأت الحرب العالمية الثانية حين غزت ألمانيا جارتها بولندا.. وكي يضمن هتلر خنوع بولندا وعدم قيام معارضة فيها قتل كافة المفكرين والمثقفين والكتاب، في حين أبقى على القساوسة والساسة ورجال الأعمال.. كان يرى ببساطة أن المجموعة الأولى هي الرأس المفكر - في كل بلد - والمسؤولة عن كشف الحقائق للجمهور، في حين يمكن شراء ذمم الفئة الثانية بالمال والمناصب وعضوية الحزب النازي.. وبالفعل أثبتت هذه الاستراتيجية نجاحها حيث كانت بولندا - مقارنة ببقية الدول التي غزتها ألمانيا - الأكثر خنوعا واستسلاما وأقيمت فيها أكثر المعسكرات فظاعة (أبرزها اوشفيتز وماجداناك التي تذكر الجميع بخطورة سيطرة أي رأي وحيد)!! .. وما حدث في بولندا يؤكد أهمية وجود كتاب ومثقفين ومفكرين - من مختلف الأطياف والتيارات - لحفظ توازن المجتمع وتحمل مسؤولية النقد والتحليل وفضح أوجه التأخر والقصور.. وقبل أن أسترسل أكثر - وقبل أن يعتقد البعض أنني أدافع عن تيار أو فكر معين - أشير إلى أنني أتحدث هنا عن المبدأ لا التيار.. عن الفكرة لا الأشخاص.. عن تعدد الآراء وليس الفردية والإقصاء.. فوجود مفكرين وكتاب من مختلف الأطياف أمر ضروري في أي مجتمع كون الشيء لا يعرف إلا بضده، والمستور إلا بكشفه، والفساد إلا بفضحه، والموروث إلا بنقده وتحليله.. وهذه كلها أمور لا يقوم بها غير مفكر حر، وكاتب شجاع، ومثقف محايد، وليس مسؤولا أو صاحب منصب يخاف على كرسيه أو يستفيد من وظيفته.. وفي المقابل تصور تداعيات اغلاق كافة الصحف ومنابر الرأي في أي مجتمع.. تصور تداعيات منع الكتاب وسجن المفكرين وتكميم أفواه الدعاة.. حينها قد تبدو الأمور هادئة ومستقرة في الظاهر (كما في بولندا التي استغرقت وقتا طويلا لاستعادة عافيتها الفكرية) ولكنه بدون شك هدوء مخادع وصمت يجثم فوق قدر كبير من الظلم والفساد وتآكل الوطن من الداخل.. وما يغيب عن أذهان معظم الناس - بما في ذلك الوزارات والمؤسسات والهيئات - أن العلاقة مع الصحافة (من الطبيعي) أن تكون متوترة.. فالصحافة مهمتها النقد والتحليل وفضح الحقائق والممارسات السلبية (ولا تجذبها الانجازات الايجابية كونها معروفة ومتوقعة).. وحتى حين تتأمل المعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة (إعلام وإعلامي) تكتشف أنه مشتق من مهمة "الإعلام" و"الإخبار" بكل ما هو شاذ وفاسد وخارج عن سياق المصلحة العامة!! وبناء عليه؛ من الطبيعي أن ينتقد الكتاب الجوانب السلبية وأن تدخل الصحف في مواجهة مع الجهات التي تبدي أوجه قصور وفساد.. ولهذا السبب تدعى الصحافة بالسلطة الرابعة (بجانب السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية) كونها تبحث عن الحقيقة وتفضح الفساد وتنبه بقية السلطات الى مواقع الخطأ والزلل.. وحتى حين تتأمل أكثر الدول ديمقراطية وشفافية تكتشف أن الصحافة لعبت الدور الأبرز في كشف الفضائح (مثل قضية ووترجيت، وفساد برلسكوني، وتجسس جوجل وآبل على بيانات المستخدمين).. وحين تفكر بصحافتنا وكتابنا بشكل محايد تكتشف أنهم ساهموا بدورهم في تطوير أداء الوزارات والمؤسسات والهيئات من خلال نقد ممارساتها على ارض الواقع (لدرجة توقع تغييرا ايجابيا من أي جهة تبدأ الصحف بنقدها)!! أما حين تروض الصحف ويوقف الكتاب؛ تتحول وسائل الإعلام تلقائيا إلى أبواق تبجيل وتطبيل وتفقد بسرعة ثقة المواطنين.. والأخطر من هذا أن "الظاهرة البولندية" لا يمكن أن تتكرر هذه الأيام بفضل كثرة خيارات النشر التي يصعب منعها أو التحكم بها، بدءا بالانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وانتهاء بالقنوات ووسائل الإعلام المستقرة في الخارج! - من أجل هذا كله تحتاج المجتمعات الحديثة الى كُتاب رأي وصحافة شريفة.. - من أجل هذا كله تحتاج الى مساحة تعبير تشمل كافة الآراء والأطياف ووسائل الإعلام المختلفة.. - من أجل هذا كله نقدر لحكومتنا الرشيدة الموافقة على تأسيس "الجمعية السعودية لكتاب الرأي" كدليل على شفافية الوطن واتساعه للجميع..