وصول نجاد إلى الحكم أكمل وأقفل دائرة سيطرة المتشددين على الدولة الإيرانية، وهو يمثل التيار الذي يعرف ب"الالتقاطي" رجال الدين والمثقفين، الذين ينظرون إلى الإسلام باعتباره أداة لتحقيق السلطة -1- مضى على الثورة الخمينية (1979) حتى الآن أكثر من ثلاثين سنة، فماذا قدمت هذه الثورة لإيران، وللإسلام، والمسلمين، ولدول المنطقة من إنجازات حضارية من التي وعدت بها قبل 1979، وهي التي جاءت من أجل الإصلاح، والتغيير، والتقدم، والازدهار، واستبدال الشوك الإيراني بالعنب؟ إن الأرقام التي أذاعها "رئيس الشؤون الثقافية" في بلدية طهران، الشيخ محمد على زم، عن نسبة الالتزام الديني لدى الشعب الإيراني، وخاصة الطلاب والشباب، فيما يتعلق بأداء الصلاة، والإباحية، والإدمان على المخدرات، أحدثت نوعاً من الصدمة، والدهشة، والذهول، لدى المراقبين والإسلاميين خارج الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأثارت قلقاً شديداً على مستقبل "التجربة الإسلامية"، ودفعتهم للتفكير، وإعادة النظر في مخططاتهم الحركية، وبرامجهم للحكم في المستقبل. -2- إن نظرة سريعة لمسار "الثورة الخمينية" و"الثورة النجادية" يبين لنا التالي على المستوى السياسي: 1- فإذا كانت ثورة الخميني قد أطلقت على أميركا فقط الشيطان الأكبر والأعظم، فإن الثورة النجادية (نسبة إلى أحمدي نجاد) أطلقت على الغرب عامةً الشيطان الأكبر، خاصة بعد أن وصل الملف النووي الإيراني إلى أعتاب مجلس الأمن، وبدأ يدق أبوابه، لكي تتم المواجهة الكبرى، والخطيرة، بين إيران والعالم. 2- وإذا كانت الثورة الخمينية لم تفلح في سيطرة المحافظين تماماً وبالمطلق على الدولة الإيرانية منذ 1979 وحتى قبل وصول نجاد إلى الحكم، فإن وصول نجاد إلى الحكم، قد أكمل وأقفل دائرة سيطرة المحافظين والمتشددين تماماً على الدولة الإيرانية. بعدما فشل الليبراليون والإصلاحيون بقيادة محمد خاتمي بإقامة ما سمَّاه "المجتمع المدني الإسلامي"، و"الديمقراطية الإسلامية"، مع الحوار بين الحضارات، بعد أن وجد نفسه في النهاية محبطاً ومحاصراً من قبل خصومه المحافظين، الذين كان يقودهم علي خامئني، ويقودهم الآن إلى جانبه الرئيس أحمدي نجاد. 3- وإذا كانت الثورة الخمينية تحسب حساباً للتوازنات الإقليمية والدولية، فإن الثورة النجادية الآن لا تحسب مثل هذا الحساب. فها هو أحمدي نجاد يقف في مواجهة أميركا، والاتحاد الأوروبي، وإسرائيل، وهم القوة الفاعلة الرئيسية في العالم، دون أي حساب. وهو يخاطب ساسة العالم بنفس الطريقة التي كان يخاطب بها المقاولين في بلدية طهران، أيام كان عمدتها. وهو لا يعرف اللون الرمادي في السياسة. ولا يعرف غير اللونين الأبيض والأسود. 4- إذا كانت السن المتقدمة للخميني وقدرته السياسية المحدودة - قبل وفاته - لم تمكنه من مواصلة قيادة الثورة التي أعلنها 1979، فإن أحمدي نجاد لديه القدرة الثورية على تفعيل ثورته الجديدة وهو (ابن الحداد) الفقير، الذي ما زال يدفع الأقساط الشهرية لقرض شراء منزله المتواضع، وهو الذي يوصف بأنه من علماء الهندسة، ومن أساتذة الجامعة ذوي العقول العلمية المنظمة، ومن مؤلفي الكتب العلمية، وجنرال "الباسدران". كما أنه أول رئيس للجمهورية الإسلامية ذي خلفية عسكرية. وقاتل نجاد في حرب الخليج ضد العراق، ومارس التدريس في كلية الموظفين التابعة للحرس الثوري، ومن الإداريين الذين أظهروا مهارة إدارية رفيعة المستوى، عندما تولى عمدة مدينة طهران، ونظّفها من الفساد، والرشوة، والمحسوبية. 5- ويظل نجاد يمثل هزيمة التيار السياسي والفلسفي، الذي كان حاضراً في الحركة الخمينية منذ البداية. ويمثل هذا التيار الذي يعرف ب"الالتقاطي" رجال الدين والمثقفين، الذين ينظرون إلى الإسلام، باعتباره أداة لتحقيق السلطة أكثر منه نموذجاً للمجتمع، على حد تعبير أمير طاهري (فوز نجاد هزيمة التيار الالتقاطي، "الشرق الأوسط"، 1/ 7/ 2005) فإذا كان الخميني لأسباب سياسية وتاريخية – كما أسلفنا - قد فشل في تحويل الثورة إلى دولة عصرية وقوية، وتصدير هذه الثورة إلى الخارج، فإن نجاد يحاول تحويل الثورة إلى دولة ثورية. رغم أنه يعتبر أول رئيس من خارج دائرة رجال الدين يتولى هذا المنصب، فيما لو استبعدنا تولي محمد علي رجائي هذا المنصب لمدة شهر واحد، حتى وفاته في انفجار عبوة ناسفة بمكتب رئيس الوزراء، في 1981. -3- أما على المستوى الديني والأخلاقي فقد ساءت أحوال إيران الدينية والأخلاقية، خلال أكثر من ثلاثين عاماً مضت، من خلال المظاهر التالية: 1- تقول آخر التقارير، إن الحرس الثوري الديني الإيراني (باسدران) هو الحاكم الفعلي في إيران، (وكان أحمدي نجاد أحد ضباطه) يتألف - حسب تقديرات المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن من 350 ألف عنصر. وهو يذيق الشعب الإيراني القهر، إلى الحد الذي أصبح معه الشعب الإيراني أكبر مستهلك ل"حشيشة الكيف" والأفيون في العالم، حسب تقارير الأممالمتحدة، وذلك نتيجة لحجم الظلم والقهر الكبيرين، اللذين تمارسهما الدولة ممثلةً بالحرس الثوري. 2- وطبقا لتقرير المخدرات العالمي عام 2005، الذي أصدرته الأممالمتحدة عن مدمني الأفيون في العالم، توجد في إيران أعلى نسبة من المدمنين في العالم. إذ إن 2.8% من السكان الذين تزيد أعمارهم على 15 سنة مدمنون على نوع من المخدرات. وإلى جانب إيران، توجد دولتان فقط في العالم، تتعدى نسبة المدمنين فيهما 2%. 3- وتقول تلك التقارير، إنه إذا ما وضعنا في الاعتبار أن عدد سكان إيران يصل إلى 70 مليون نسمة، وأن بعض الإدارات الحكومية الإيرانية، تعتقد أن عدد المدمنين يصل إلى 4 ملايين شخص، فإن ذلك يضع إيران على قمة عدد السكان المدمنين في العالم على المواد المخدرة، بما في ذلك الهيروين. 4- وتتابع هذه التقارير قولها، بأنه كان يُنتظر أن يواصل رجال الدين الذين استلموا السلطة في إيران أسلمة ما تبقى من المجتمع والقضاء على جذور الفساد والانحلال والانحراف، إلا أن الأرقام التي أذاعها المسؤول الثقافي الإيراني، وكشف عنها خلال مؤتمر صحفي، يُعدُّ الأول من نوعه من حيث الشفافية والصراحة والنقد الذاتي، أشارت إلى تراجع نسبة الالتزام الديني لدى غالبية الشعب الإيراني وخاصة الشباب، حيث تجاوزت نسبة غير المصلين الثمانين بالمئة، وتجاوزت نسبة الإباحية الستين بالمئة، وبلغت نسبة المدمنين على المخدرات عشرين بالمئة، وهي أرقام مرعبة حقاً في مجتمع إسلامي تحكمه حكومة تدعي أنها دينية، وتسيطر فيه على وسائل الإعلام من صحافة وإذاعة وتلفزيون، ويوجد فيه حوالي نصف مليون رجل دين! 5- ورغم أن الحكومة الإسلامية بذلت عناية فائقة في إعداد برامج دراسية دينية للأطفال منذ نشوئهم في المدارس الابتدائية وغيرها، إلا أن حصيلة تجربة ثلاثة عقود من الزمن كانت ابتعاد الشباب والطلاب عن الدين بنسبة عالية جداً، كما قال أحمد الكاتب في بحثه (لماذا يتراجع الإيرانيون عن الالتزام الديني؟ مجلة "الوسط"، لندن، 24/ 7/ 2007).