في مشهدٍ مستوحى من مسلسل جرهام لينهان الفكاهي (ذا آي تي كراود)، قام الممثلان روي وموس المهووسان بالتكنولوجيا في مبنى الشركة التي يعملان بها، بإقناع مديرتهما جين التي تنقصها المعرفة الجيدة بالتكنولوجيا الحديثة، بأن الجهاز الأسود الصغير الذي يقبع فوق الطاولة هو الإنترنت! وما أن رأته يومض حتى طلبت مساهمي الشركة لاجتماع لتقدم لهم هذا الصندوق الأسود السحري. وبدلًا من ضحكِ الحاضرين في الغرفة، ارتسم على وجوههم الذهول والعجب، وهم يرددون ذلك هو الإنترنت إذا! ثمة الكثير من مستخدمي شبكة الإنترنت، بل حتى من أكثر الناسِ معرفةً به، يقعون في الوَهم ذاته. حيث ينظرون إلى هذه الشبكة كما لو كانت شيئًا مجسمًا، سيئًا أو جيدًا، إما أن تتلف أدمغتنا أو أن تحررها، وكذلك علاقاتنا ومجتمعاتنا. وكثيرًا ما يتحدثون عن الإنترنت بوصفه كيانًا منفصلًا، يمكن أن يُؤخذ أو يُترك، وليس كونه محيطًا نفكر ونشعر من خلاله. وفي هذا الكتاب الصادر مؤخرًا يحاول لورنس سكوت، الكاتب والأكاديمي المتخصص باللغة الإنجليزية والكتابة الإبداعية، اكتشاف كيف تغيرت حياة الإنسان ببُعد العالم الرقمي الرابع بشكل كبير، عبر نظرة فلسفية لا تخلو من معلومات تقنية، ونقدِ اجتماعي للعالم الرقمي الذي أعاد تعريف حياتنا الاجتماعية ووسع حدود وجودنا في العالم ضمن سياق ثقافي أوسع من الأدب والسينما. وفي الكتاب سبعة فصول وخاتمة، جاءت عناوينها كالتالي: صحيح من الناحية التشريحية، نوعٌ جديدٌ من الطنين، أسلوب جديد للمادة، إضاعة الوقت والمحافظة عليه، التَلصص، كوخٌ في الغابة، الشاشة الصَمَّاء، نارُ الأشباح. لا شك أنك تقرأ هذا على الشاشة، وعلى الأرجح من خلالِ لوحٍ أو هاتف محمول، وقد يكون عبر شاشة جهاز كمبيوتر. إن هذا التفاعل المستمر مع تقنية الواحد والصفر هو بداية تأثير العالم الرقمي على حياتنا، إذ بدأنا ننتزع ببطء إلى عالم الاتصال المستمر والمعلومات الفورية على مدار أربعٍ وعشرين ساعة. وهذا يمثل بحد ذاته سمة جديدة للبُعد الرابع للإنسان. في حين أن كل واحدٍ منا موجود في فضاءِ مادي ثلاثي الأبعاد، إلا أنه مع ازدياد الظواهر الرقمية اليومية المُعَقَّدة التي تربط نواحي حياتنا، بدأنا نميل للانعزال في بُعدٍ رابعٍ، مثير وغريب، عالم متصل لا تنقطع معلوماته الفورية. وبدت أبوابنا نحو هذا العالم الجديد مُشرعةً، وبدأت الصورة الظلية لشخصيته تتشكل ببطء. ولكن كيف هو الشعور من أن يكون الإنسان رباعي الأبعاد؟ كيف تؤثر التقنية الرقمية على إيقاعات أفكارنا، وأسلوبنا ووعينا؟ وما هي الأفكار والمشاعر الجديدة التي بدأت تظهر مع تعرضنا للعالم المتشابك، حزنًا وسرورًا؟ وكيف هي الحياة مع الناس عند ما أصبحت خاصة ومشفرة؟ لا يستمد الكتاب عبارة «البعد الرابع» من المفهوم التكنولوجي المتطور في الوقت الحاضر بل من نصوص القرن العشرين الأدبية، ولا سيما رواية «الورثة» لجوزيف كونراد وفورد مادوكس فورد. ويمثل البُعد الرابع هنا «الفضاء اللانهائي الغامض» المنطوي في حياتنا ذات الأبعاد الثلاثة القياسية. وفي الإشارة إلى الأبعاد الأربعة عودة للنزعة التي ظهرت في أدب أواخر القرن التاسع عشر، حين طُرحت فكرة انهيار المكان والزمان التي من شأنها أن تسمح بالسفر إلى أماكن بعيدة في لمح البصر. ويُعد الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر أول من ذكر عبارة بُعد الإنسان الرابع.في حين أن التعامل مع أفكار الزمان والمكان، والعزلة والصمت والتهديد، أصبح سمةً من سمات عالم الإنترنت الحديث، انتقلت القراءة من هاملت إلى أشباح وسائل الإعلام الاجتماعية، ومن متابعة مسلسل ساينفلد إلى مشهد سقوط القذافي. وإن من مفارقات الحياة في البعد الرابع، اختفاء الحدود المكانية والزمانية وتكثيف الحنين العاطفي للماضي. وأصبح لحوار الإنسان عبر وسائل الإعلام الاجتماعية طنين غريب مميز عن صمت الصوت الهاتفي، الذي يمثل «رباطًا متينًا». كما يستحضر الانتقال من ضوء المصباح بما يمثل من العزلة الاجتماعية في القرن العشرين، إلى الشاشة المتوهجة في القرن الحادي والعشرين. وفي الإشارة إلى«كوخ الغابة» رمزًا لذلك المشهد الرومانسي (المنزل المنزوي، تعلوه علامة وردية تمثل علامة غوغل) في جبال الغابة السوداء رمزًا للعزلة الاجتماعية.إن الفكرة المسيطرة الآن عن شخصية إنسان العصر الحالي، أنه أصبح منعزلاً عن الآخرين، حقيقةً وخيالاً. وكأنه ديكارت يجلس صامتًا بجانب الموقد، متأملاً بصمت، أو دون كيشوت وهو يقف وحيدًا بجانب طاحونته الهوائية، أو أميرة كليف، وهي تنتقل ببن مخدعها ودير الراهبات المنعزل، وروبنسون كروزو في جزيرته النائية. قد تكون هذه الحالات الشخصية للانعزال قصصًا نحكيها لأنفسنا، ولكنها ليس أكثر أثارة من قصتنا، لأن المفارقة تكمن أننا لن نصل الى الذروة. فنحن نحتشد كل يومٍ وليلة، بغض النظر مدى قرب بعضنا من بعض، ولا نزال نقصي أنفسنا في زوايا متباعدة طمعًا في حيز الحلم.وفي قصة مدينتين لتشارلز ديكنز، دليل مثير يمثل انعكاسًا لهذه الصورة، وهي أن كل إنسان يشكله سرٌ عميقٌ وغموض تجاه الآخرين والأشخاص المجهولين حوله. وفي قصة إدغار ألان بو «الرجل من الحشد» يظهر ذلك الرجل المجهول الذي يلاحق رجلًا آخر عبر أزقة وشوارع مدينة لندن المزدحمة، لتَكمن حكاية الرعب في نهاية الحكاية.