في منزل يقع بين غابات بوسكورة التابعة لمدينة الدار البيضاء، التقيت بالقارئ المتمكن الشيخ عمر القزابري حيث تلقيت دعوته مع أستاذي الدكتور مساعد الطيار، في هذا المكان الذي تنبثق منه رائحةُ الزمن الجميل، والشعورُ بالراحة والأنس. وعندما سألته قال: إنه منزل لأحد الأصدقاء، دائماً أتردد على هذا المكان، حينما أخلو بنفسي للمراجعة وكتابة خطبة الجمعة الأسبوعية، وأكون فيه مع الخاصة بعد صلاة الجمعة لتناول (وجبة الكسكسي) التي لا يخلو منها بيت مغربي بعد صلاة الجمعة إلا ما ندر. كانت ليلةً أقل ما يقال عنها أنها ماتعة، مع ابن مراكش البهجة إمام أكبر جامع في المغرب - جامع الحسن الثاني - الذي أمتعنا بصوته القراري الجميل (كنحمق عليه بزاف)، أعجبني فيه تواضعه، روحه الجميلة التي تمتاز بالدعابة والبساطة، والانتقال والتنوع في الأخبار والمعلومات خاصة فيما يتعلق بالقرآن الكريم وعلومه. يلقى القارئ القزابري مكانة ومحبة لدى ملك المغرب محمد السادس، وقد أعطاه وسام الدولة مرتين منها حينما كان التكريم في مدينة تطوان قبل أذان مغرب ليلة سبع وعشرين من رمضان، وطيلة فترة التكريم تشغلني فكرة السفر إلى الدار البيضاء للصلاة بالناس صلاة التراويح، لا سيما أنَّ المسافة بين تطوانوالدار البيضاء خمس ساعات تقريباً، لكني تفاجأت قبل أن أنصرف بسيارتي من مكان الحفل يأتي أحد رجالات الملك ويخبرني بأنَّ الملك أمر بتخصيص طيارة خاصة تقلك بعد قليل إلى الدار البيضاء حتى تدرك صلاة التراويح!!. وهذا ليس بغريب ولكن الغريب كيف استطاع الملك أن يتذكرني وهو مشغول بمراسم الاحتفال وما احتوته من برامج ولقاءات، وكيف أدرك أني في مأزق تلك اللحظة دون أن أطلب منه ذلك!! وعندما سألت القارئ القزابري عن سبب انحدار الذائقة الصوتية لدى قراء هذا العصر – إلا ما رحم الله - مقارنة بالعصر السابق؟! فأجاب: لأنه لم يعد هناك سميعة مزيانة يا صديقي!! الجيل المعاصر يسمع الصوت الجميل لكنه لا يفرق بين القراء من ناحية الترتيل والوقوف وأداء المعاني واختيار الطبقات المناسبة لكل مقطع ولك أن تستمع إلى القارئ الجميل محمد رفعت، وتجلياته أثناء التلاوة التي تبدأ بطبقة هادئة فلا تشعر إلا وقد ارتقى بك لعدة طبقات دون أن تشعر بنشاز الانتقال أو التحول. كما أنَّ القارئ القزابري كان معجباً بشخصية اللغوي المغربي إقبال الشرقاوي صاحب كتاب معجم المعاجم، ويُثني على تمكنه في علوم العربية، لدرجة أنَّ الشرقاوي كان يحفظ مائة ألف بيت من الشعر. ومن لطيف ما يُذكر عنه أنه لما زارت بنت الشاطئ عائشة عبدالرحمن المغرب قدمت محاضرة تكلمت من خلالها حول الشواهد الشعرية العربية، وقالت هناك بعض الكلمات لم أجد لها شاهداً شعرياً في العربية وذكرت الكلمات، فأجابها الدكتور إقبال الشرقاوي: ما بين ثلاثة أو أربعة من الشواهد الشعرية لكل كلمة!! فقالت له بنت الشاطئ: نحن نعرف عنكم أيها المغاربة أنكم تحفظون، لكنكم لا تكتبون!! فداعبها الشرقاوي بقوله: يكفينا أن نصلح ونعدل ما تكتبون!! دخلت عليه قبل وفاته بأيام وقد كبر سنه، ورق عظمه، فسلمت عليه وهو مستلقٍ على جنبه، وأخبرته أني ابن الشيخ أحمد القزابري، فطلب مني أن اقرأ عليه شيئاً من القرآن فقرأت عليه سورة الملك، ثم سألته عن مفردة (غوراً) في نفس السورة فأجاب: كل ما يبدأ بالغين في العربية فإنه يشير إلى الغموض والخفاء كالغريق يخفيه الماء ويغطيه وهكذا. القارئ الشيخ عمر القزابري نموذج رائع للشاب العربي الطموح الذي لا يشبع من التطلع والرقي نحو النهوض بواقع الأمة الإسلامية، كما أنه صاحب ذائقة رائقة للغاية في انتخاب الأصوات وتمييز الجيد منها والأجود.