تلقت الأحساء يوم الاثنين الموافق 4/5/1436ه الخبر الحزين الذي اقض المضاجع وضاقت به الصدور فأرسلت المدامع واختلجت العبرات وارتفعت الأيدي بالدعاء لرب البريات ان يرحم الفقيد وأن يحسن عزاء اهله واحبابه والكل هنا أحبابه, إنه خبر وفاة الدكتور الشيخ محمد بن ابراهيم النعيم ابي عمر، ولعل الكثير من الناس له قصة حزن تتناسب مع علاقته بالفقيد العزيز, وإني من هؤلاء الذين ربطتهم قصة عمر ورحلة أيام امتدت لسنين مع الأخ الفاضل والداعية الناجح والإمام الملهم والقارئ الخاشع رحمه الله, كيف يمر هذا الموقف من دون تسجيل علامة حب ووفاء ووضع أثارة ودٍ وإخاء مع هذا العلم الذي خطف القلوب بطيبته وحبِّه للخير للناس، بسلامة قلبه وحلو كلامه وعذب حديثه وحسن ظنه وبعده عن الغيبة واساءة الظن التي شاعت حتى غزت أوساط الأخيار والقدوات وقليل من يسلم منها. إذا تحدث سمعت لصوته نغمة حنان وبحة وجدان, إذا ناقشك لم يسئ اليك وإذا جادلك لم يغضبك واذا خالفك لم يُنفّرْك, الطيبة تصبغ كلامه وتنير وجهه والحب يفيض من ابتسامته التي لا تكاد تفارقه حتى وهو يصارع الألم والمرض الذي اودى بحياته. اذا خطب أثر وإذا ألف أحسن وإذا تكلم أبدع، حلو المعشر خفيف الظل، لا أظن أنه له اعداء في مجتمعه, عرفته منذ سني الدراسة الجامعية وكان بيننا ألف وتقارب في الأفكار والنفسيات, ثم كان التخرج فساح كل منا في دنياه الخاصة به وكان من نصيبه الإعادة ثم الابتعاث ومن أغرب ما صنعه ولم أسمع بأحد فعلها ممن أعرف أو يُذكر لي أنه بذل جهدا كبيرا لتكون بعثته في بلد اسلامي تنزها من أن يعيش في بلدان غربية وفيها ما فيها من الشر والانحلال, فكان له ما طلب فابتعث الى مصر ودرس في جامعة عين شمس كما أذكر وكأني به استفاد من وجوده هناك بالدراسة على كبار القراء الذين تزخر بهم مصر وما زالت، وقد لاحظت زيادة اتقان في قراءته بعد عودته. لقد كان رجلا موفقا بكل ما تعنيه الكلمة: موفقا في دراسته حيث وصل الى الأستاذية في جامعة الملك فيصل بالأحساء، وموفقا في حياته الأسرية وهو المربي الناجح، موفقا في حياته الاجتماعية بحضوره الاجتماعي الملفت, موفقا في طموحاته حيث أحب أن يكون مؤلفا في الدعوة والوعظ والعلم الشرعي فكان له ما اراد فألف مجموعة من الكتب وأحسب أن بعضها لم يسبق اليه مثل كيف تطيل عمرك الانتاجي!! موفقا في تطبيق ما يدعو اليه وهذا جهاد خاص اذ إننا كثيرا ما نمتدح عملا ولكننا قد نخفق في تطبيقه احيانا أو احيانا كثيرة وربما بالمرة، وموفقا في عبادته وسمته وجديته، فليس بالرجل الثقيل الذي لا تعرف كيف تعامله وليس بالرجل المهذار كثير الضحك المخالف للهيبة, دمعته قريبة وكلماته ندية، رقيق القلب وفائض الحب، تقرأ السماحة في وجهه من دون تكلف ولا تحتاج أن تكون ذا فراسة للتعرف على جودة معدنه وصدق أحاسيسه, عرفته منذ ما يزيد على ست وثلاثين سنة لم أسمع منه ما يسيء أو يجرح، إلا ما يحببك إليه ويثير اعجابك به ويزيد تعلقك به والفرح بالتعرف إلى أمثاله. ماذا فعلت بنا أيها الغائب الحاضر! وماذا غرست في قلوبنا أيها المغادر! وماذا ابقيت لنا أيها المنتقل المسافر! تركت قلوبا منصدعة وعيونا دامعة وقلوبا خاشعة وأكفا بالدعاء لك إلى الله مرتفعة وعَبرات مسكوبة وعِبارات مكتوبة وكلمات محمومة وقصائد مكلومة ومشاعر مهمومة. ولعلي استعير شعرا قديما يحكي ما أعالج من حزن ولوعة وضيق وهم: سألت الندى والجود: مالي أراكما تبدلتما عزاً بذل مؤبد؟ وما بال ركن المجد أمسى مهدماً؟ فقالا: أَصبنا في ابن يحيى محمد فقلت: فهلا متما بعد موته وقد كنتما عبديه في كل مشهد؟ فقالا أقمنا كي نعزي بفقده مسافة يوم ثم نتلوه في غد يكفيك فخرا في الدنيا هذه الآثار المباركة وهذه التزكيات المتتالية وذلك الحضور العظيم في جنازتك التي أشبهت جنازات الأمراء والكبراء والرؤساء, وهذه المراثي الرقيقة المؤثرة التي انطلقت مع زفرات المحبين من شعراء الأحساء المجيدين. ولعل الله أراد أن يعليك درجات ويفيء عليك بمكرمات فاختبر صبرك وقد ابليت بلاءا حسنا فلله درك, نحسبك والله حسيبك أنك نلت ما أردت وقد أكرمك الله بالذي تحب. اللهم ارحمه واغفر له وارفع درجته في العليين.. وداعا فارس المحاريب والمحابر.