وزائرتي كأنَّ بِها حَيَاءً فليسَ تزورُ إلا في الظَّلامِ بذلتُ لها المَطَارِفَ والحَشَايا فَعَافَتها وباتتْ في عِظَامِي بِغَضِّ النَّظَر عن المناسبة التي قيلت فيها هذه الأبيات وما كان بين المتنبي وكافور الاخشيدي من شأن ليس بالهيِّن على شاعر عصره- وجميع العصور في نظري- فقد تسببت الحُمَّى التي أصابت أبا الطيِّب وأقضَّت مضجعه في أن تجود قريحته بقصيدةٍ لم يُسمع في تاريخ الأدب بمثلها في مجالها، فإن كان الألم لا يُولِّد إلا التأوه والأنين لدى البعض إن لم يصبروا أو يتصبَّروا فإن الشعراء يملكون أكثر من ذلك، ولذا فقد أسهب المتنبي في وصف " الحُمَّى" فقال: يضيقُ الجلدُ عن نَفْسِي وعَنْها فتوسعهُ بأنواعِ السقامِ كأنَّ الصُّبح يطرُدُها فَتَجرِي مَدَامِعُها بأربَعةٍ سِجَامِ ولعلمه بفرط إعجابي بقصائد المتنبي فقد أرشدني إلى هذه القصيدة أحد الاخوة الكِرام إثر "حُمَّى" ألمَّت به، فدعوت له طويلاً بعدها، ليس لأن الأبيات راقت لي فحسب، بل لأنه أتاح لي التعرف على "إيجابيات" الحُمَّى التي كنتُ أجهلُ أكثرها كما يجهلها غيري، ولعل أول ما تذكرته حينها الحديث الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس-رضي الله عنهما- (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده، فقال: لا بأس عليك، طهور إن شاء الله، فقال الأعرابي: طهور، بل هي حمى تفور، على شيخ كبير، تزوِّره القبور، فقال النبي عليه الصلاة والسلام (فنعم إذاً)، ويُروى أنه توفي على إثرها. فالحُمى كما تُعرِّفها موسوعة ويكيبيديا هي: عرضٌ مرضي شائع يُوصف بأنه ارتفاع في درجة حرارة الجسم الداخلية إلى مستوى أعلى من الطبيعي بحيث تصل إلى ما فوق (37,3) درجة مئوية، وهي تُعد سلاح الجسم لمقاومة "التعفُّن"، وتنتج عن مجهود عظيم يبذله الجسم ليتخلَّص من مرض، ويعيد التوازن الجسدي إلى حالته الأولى. ويقول بعض الأطباء: "إن كثيرًا من الأمراض نستبشر فيها بالحمى كما يستبشر المريض بالعافية فتكون الحمى فيها أنفع من شرب الدواء بكثير، مثل مرض الروماتيزم المفصلي الذي تتصلب فيه المفاصل وتصبح غير قادرة على التحرك، ولذلك من ضمن طرق العلاج الطبي في مثل هذه الحالات الحمى الصناعية، أي إيجاد حالة حمى في المريض بحقنه بمواد معينة". أراقبُ وقتها من غيرِ شوقٍ مراقبةَ المَشُوقِ المُسْتهَام ِ ويصدقُ وَعدُها والصِّدقُ شرٌ إذا ألقاكَ في الكُرَبِ العظَامِ كنتُ أعلم بأن ارتفاع حرارة الجسم هو وسيلة دفاعه الأولى، وحين مرض ابني"محمد" في الشهر الثاني من عمره ظللتُ معه في المستشفى لمدة أسبوع ليحصل على المضاد الحيوي في الوريد وينجو من جرثومة هاجمت جسده الصغير، وفي الصَّف السادس شارف "محمد" نفسه على الموت لأن الأطباء الذين طُفنا به عليهم في المستشفيات الحكومية والخاصة لم يجدوا كسراً مكان الألم الذي يشكو منه في ساقه فاكتفوا بوصف خافض للحرارة، وكنت أتساءل: الحرارة لابد أن لها سبباً، وقد يكون التهاباً في مكانٍ ما، فلماذا لا يبحثون عنه؟! حتى أوشكت أن أفقد صغيري إلى الأبد لولا رحمة الله الذي سخَّر له طبيباً حَاذِقاً في مستشفى ارامكو السعودية شكَّ بوجود جرثومة في العظم وطلب عمل أشعة خاصة جداً للتأكد منها، بينما دخل "محمد" في غيبوبةٍ استعان فيها الأطباء بكل الأجهزة الطبية في قسم العناية المركزة ليبقى على قيد الحياة بعد أن هتكت الجرثومة رئتيه وأعضاء جسده الداخلية بما فيها البنكرياس فوصل السُّكر إلى أعلى مستوى بينما هو لا يعلم عن العالم شيئا، والممرضة العربية تقول لي: لا تتأملي كثيراً بأنه سيعيش في الوقت الذي لم يتزعزع فيه يقيني بأنه سينجو بمشيئة الله وحده الذي سخَّر له الأطباء ليُشخصوا داءه ويُجروا له ثلاث عمليات متتالية كان آخرها في مستشفى الملك فهد التخصصي، ورافقته هناك لأكثر من شهرٍ ونصف حتى عاد للوقوف على قدميه من جديد والحمد لله، نعم الحمد لله هذا ما يسعني ان أقوله كلما تذكرت ما مرَّ به من ألمٍ ومعاناة. أبنتَ الدهرِ عندي كلُّ بنتٍ فكيفَ وصلتِ أنتِ منَ الزِّحامِ جَرَحْتِ مُجرَّحاً لمْ يبقَ فيهِ مكانٌ للسُيُوفِ ولا السِّهامِ و الطب الحديث أثبت اليوم أنه عند إصابة المريض بالحمى تزيد نسبة مادة (الأنترفيرون) لدرجة كبيرة، وأن هذه المادة التي تفرزها خلايا الدم البيضاء تستطيع القضاء على الفيروسات التي هاجمت الجسم، وتكون أكثر قدرة على تكوين الأجسام المضادة الواقية، وهي لا تخلص الجسم من الفيروسات والبكتريا فحسب، بل تزيد من مقاومة الجسم للأمراض، وتساعد في القضاء على الخلايا السرطانية عند بدء تكوينها.، فسبحان الله رُغم مافي "الحُمَّى" من الإيذاء وعدم الراحة فقد نهى عليه الصلاة والسلام صحابته عن سبِّها ففي حديث جابر بن عبدالله: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دخل على أم السائب أو أم المسيب، وهي ترفرف، فقال: "ما لك يا أم السائب؟ "، أو "يا أم المسيب". قالت: الحمى، لا بارك الله فيها. فقال: "لا تسبي الحمى، فإنها تُذهب خطايا بني آدم كما يُذهب الكير خبث الحديد.» رواه مسلم في الصحيح ومع ذلك وجَّه عليه الصلاة والسلام أمته برفق إلى دوائها والسبيل لتسكينها فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: (الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء) رواه البخاري، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يُبردونها بماء زمزم كابن عباس رضي الله عنهما. ولنا مع الحمى حديث آخر ذو شجون. قبل الوداع: سألتني: أتحملين في قلبك كُرهاً لأحد؟ فقلت: بفضلٍ من الله ليس للكُره موقعٌ في قلبي لأي كان مهما فعل، فالكُره يضرُّ بصاحبه أولاً واخيراً. نعم.. قد أتضايق لسلوكٍ ما أو تصرُّف،أو لمجرد كلمة تُزعجني فأنا بَشَر، لكنني أُبْغِضُ الفعل وليس الفاعل، وأُبْقي مودَّتي كما هي راجية أن يهديه الله وهو القادر على كل شيء. ولم أر في عيوب الناس شيئا كنقص القادرين على التمام * رئيسة وحدة الإعلام الاجتماعي النسائي بالمنطقة الشرقية