(في حكاية الرحلة الخامسة من حكايات رحلاته السبع يحكي السندباد قصته مع (شيخ البحر) اذ بعد ان تحطمت سفينة السندباد, وألقت به الامواج الى جزيرة جميلة ملأى بباسق الشجر وعاطر الزهر وطيب الثمر.. صادفه شيخ مليح جالس عند ساقيه على عين ماء جارية, مؤتزرا بازار من اوراق الشجر فدنا منه السندباد, وسلم عليه, فحرك الشيخ رأسه, واشار بيده أن احملني على رقبتك, وانقلني من هذا المكان, فحمله السندباد على كتفيه وأحاط رجليه برقبته وانتقل الى المكان الذي اشار اليه الشيخ وقال له: انزل, فلم ينزل, وظل يخنق السندباد ويضربه بساقيه, وضيق وثاقه, على السندباد لا يفارق رقبته ليلا او نهارا. ويبدو ان علاقتنا بالتراث تشبه علاقة السندباد بشيخ البحر في اكثر من جانب منها: فالتراث يخادعنا عن انفسنا او نخادع أنفسنا عنه, نقبل عليه بأوهام سرعان ما تجعلنا عبيدا له, او نجعل منه حضورا يقبض بأطرافه على رقابنا, فيعرقل خطونا, ويقودنا الى حيث يشاء من ازمانه بدلا أن نقوده نحن الى ما نشاء من أزماننا .. الخ) د. جابر عصفور/ هوامش على دفتر التنوير. ص 17 حكاية السندباد مع شيخ البحر يجب أن تقرأها بنصها في الف ليلة وليلة حتى تلمس عمق التشبيه الذي ساقه جابر عصفور. فالتراث مثل ذلك الشيخ ونحن طوال هذه القرون مثل السندباد رقابنا تحت رحمته. مشاكلنا مع التراث كثيرة وقد خاض في البحث فيها معظم مفكرينا المعاصرين وأول تلك المشاكل القراءات المختلفة لهذا التراث, اذ كل يدعي أن قراءته هي القراءة الصائبة في حين ان التراث حين يقرأ( انتقائيا) يستجيب لهذه القراءات جميعا. ما الذي ساقني الى خوض هذا الموضوع الشائك هل دقة تشبيه جابر عصفور أم ولعي ببحث التراث أم انسراعي مع حكايات السندباد السبع ام لا هذا ولا ذاك بل ما قاله حسين مروة عن قصيدة خليل حاوي؟ (السندباد في رحلته الثامنة) حيث يقول: في هذه القصيدة (حيث نرى وجها جديدا, فهو يدخل في تجربة القلق من الحاضر والضيق به على هدي من الادراك الواقي لنقائص المدينة وتناقضاتها واشيائها السلبية, وما خلفته في دنيانا من غبار. في مدن تحجر الليل بأعصابي فامضي ارتمي والليل في القطار) أظن ان السبب الذي ساقني هو هذا.