ذكرني خليل بخليل وخليل الثاني قدم من الشاطىء المتآكل والمهجور الذي تنام على اهدابه تلك السفن المحطمة. من هنا من خلف الحيطان الرطبة والمتكلسة بحي (المسطاح) ومن بوابة اكثر اتساعا تطل بلا قيود او حدود على مياه البحر الاحمر ومن المواجهة الحميمة والاسيرة مع تلك الوجوه الجنوبية السمراء الحادة كأسنة الرماح. ومن خلف تلك العيون (الدعج) الحالمة والساخرة والمتيقظة والناعسة والمنتشية من رذاذ (الوشل) والتي عانقت القمر حتى تعب القمر واحتضنت الفل والندى حتى ذبل الفل وجف الندى, من خلف تلك العيون التي اضاءت الطريق وبددت كل دياجير الجهل والعتمة والظلام. ومن مقلمة (المقلمة) ضمخت بعطور الهند والسند واريج الحقول في تهامة ومن خلف (العقم) وهن يسربن سنابل الذهب والقمح والأمل, ومن رأس كل غصن اخضر سرقت وشهقت وارتوت من رحيقه الارض. ومن نداء كل مأذنة عتيقة (بالساحل والبورى والمطلع والجبل) قدم الينا الرائع والجميل خليل حسن خليل الذي ذكرني به الاستاذ خليل الفزيع, عندما تحدث عن الفن التشكيلي. قدم خليل التهامي من بين شقوق الطين ومن بساتين ابي عريش ومن وادي بيش وصعد ككل نبت بري في ارض الخصوبة والعطاء كانت لوحاته عتبة الفهم (لمن يفهم) وبوابة الحدس الجنوبي لمن يعرف الجنوب, كانت لوحاته المعنى واللسان الممتد الى عنان السماء. لقد تحدث خليل وكتب بلوحاته بطريقة ابلغ وأشمل من كل كلامنا. كانت ريشته وخطوطه والوانه ترتدي وتتزين وتتجمل بأمواج البحر واشعة الشمس وشموخ الجبال وملوحة الشواطىء وانين المتعبين وكفاح ابناء الطين, كان يلبس كل هذا فاتحد بفنه مع جذوره وأصالته, لقد جاء خليل في لوحته (النهاية) بكل اضلع قاربه المكسور وجماجم الموتى ليقول كلمة مختصرة وسريعة عن الموت ولكنه يفجر من داخل القبر الحياة فينطلق طائر ويستعد آخر في مولد حياة اخرى لقد ترك لتلك اللحظة (ساعة الولادة) ان تعيد ترتيب كل شيء فيضخ من (بيضة) شريان الحياة بعد ان قال إن هذه الدنيا فانية, اما لوحته (حلم ليلة صيف) وهو في تقديري يحلم بالانطلاق من محبس الجن انه يحلم بمدينة اسطورية خلف البحار وبقصر شيد من بيض (الرخ) ويأتي في لوحته الشهيرة (البحار والعجوز) ليرسم ذلك الصياد فترى في وجهه (عيسى) او (موسى) او (عرفة) من الكادحين والمتعبين. واقعية خليل هي تلك الواقعية التي تتقدم اليك وتقتحم الحواجز في موكب من المشاعر والحواس الجامحة, فلا تملك الا ان تقول هذا من تربتي, ومن لحمي ودمي, ان ملامحه الجنوبية لا تتداهي او تكذب عليه.