فاجأني احدهم بهذا السؤال الذي يحتمل اكثر من وجه، ومن ثم فان الاجابة عنه تحمل اكثر من وجه ايضا، والصمت هنا له وجهان، وجه حقيقي وآخر معنوي، وصوت المبدع قد يكون جهوريا، ومع ذلك فهو لا يخرج عن دائرة الصمت المعنوي اذا خلي من الهدف او انحاز الى مهادنة الواقع، وانساق وراء مظاهره السلبية. وهذا الصوت قد يكون صامتا، ولكنه الصمت الابلغ من الكلام، وقد يكون هامسا لايعرف معنى الصمت والجعجعة، ولكنه اشد من دوي القنابل فاعلية واثرا في المجتمع، ولعل من ابرز ما اتصف به العرب هي الظاهرة الصوتية التي تدفعهم الى القول اكثر من الفعل، والى الضجيج اكثر من الهدوء والاتزان. واقرب مثال على ذلك مانراه من حملات اعلامية شرسة، تنشب احيانا بين بعض البلدان العربية، وتستخدم فيها جميع الاسلحة المباحة وغير المباحة، وفي مثل هذه الاجواء الموبوءة بالاصوات المتنافرة.. والمشحونة بالعداوات والضغائن، تظلل الابداع غيمة من التوتر وعدم الثقة في الاهداف التي عليه ان يسعى لتحقيقها. لكن هل يمكن للمبدع الاصيل ان يصمت؟ ان يتوارى صوته عن الاسماع في وقت لايحتاج الى الصمت بل هو بحاجة الى الكلام الشجاع. في تصوري ان هذا المبدع لايمكنه ان يصمت حتى وان حاول ذلك، وصمته في هذه الحالة ابلغ من كلامه.. والمبدع كيف يستطيع الصمت؟ وله طروحاته التي تمس الواقع وتستشرف المستقبل، وترسم الابتسامة على الشفاه، وتبعث الامل في القلوب، وتفجر ينابيع الخير في النفس البشرية، وتهذب المشاعر الانسانية، وتحرض كوامن الابداع وتنمي طاقات المبادرة والريادة والثقة بالنفس والآخرين؟ هناك حالة واحدة لصمت المبدع، هذه الحالة هي حالة الوفاة، لكن الموت لايضع حدا لحياة المبدع، لان انتاجه يظل مدويا في غياهب الزمن.. شاهدا لعصره او عليه.. وما من مبدع متميز خفت صوته بانتقاله الى الرفيق الاعلى، بل ظل هذا الصوت عبر الزمان ناطقا بالكثير من عبر الايام، والكثير من اسرار الحياة، ينقل الأزمنة واحقب الموغلة في القدم.. الى الحاضر.. ويرتل على مسامع الاجيال قصة الانسان في صراعه بين الخير والشر.. بألوان شتى وبصور عديدة وبملامح مختلفة. واحيانا قد تكون هذه الوفاة بعثا جديدا بالنسبة لابداعات مجهولة، فكم اديب كبير ظل منسيا في حياته، ولما فارق الحياة، اهتم بأدبه النقاد، واعادوا اكتشاف مجاهله، وارتادوا جزره النائية التي ظلت غير معروفة اثناء حياته. ان اصوات المبدعين عبر التاريخ، والمتمثلة في ماتركوه لنا من ارث ثقافي كبير، هذه الاصوات لم تختف باختفاء اصحابها من الحياة.. لانها تملك من مقومات البقاء، ماضمن لها الحياة الى ان يرث الله الارض ومن عليها. فهل يحق لنا بعد ذلك ان نسأل؟ متى يصمت المبدع؟ ان اي صمت مهما كان نوعه هو كلام آخر.. له الف معنى ومعنى.. اذا صدر من مبدع قدير متميز.. شهدت له الايام بهذا الابداع والقدرة والتميز. فهل نعي هذه الحقيقة؟