واصل الأستاذ المساعد بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى الدكتور عبدالعزيز أحمد الحميدي في الحلقة التي بثها التلفزيون السعودي عبر قناته الأولى أمس من برنامج همومنا، طرْح المزيد من الرؤى التحليلية لأدبيات التطرف، وكشف بعض المناهج التي وظفتها جماعات التكفير في تضليل الشباب من خلال عسف النصوص، وكان الحميدي قد أوضح في الحلقات الماضية من البرنامج بعض الحقائق عن أدبيات ورموز التطرف ونقض أسس كتاب "ملّة إبراهيم" لأبي محمد المقدسي الذي تبين أنه دلس فيه، واجترأ على الله ورسوله بتكفير الحكام والدعوة إلى الحرب المطلقة، وبين الحميدي أن غرض الكتاب هو التشويش وتهييج الشباب بمنهج علمي مضلل. وفي حلقة أمس استكمل الحميدي مشروعه الفكري مبينا أن المصالح الكبرى للأمة كقضايا السلم والحرب والعلاقات مثلاً تتعلق عليها مصائر الشعوب ومصائر المجتمعات، وهذه لا يستقل بها أفراد فهي من أخص مسؤوليات ولي الأمر، وهو مطاع وله أن يستشير، مستشهدا بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يستشير في العقود التي فيها المصالح الكبرى للأمة باعتبار مقام إمامته وولايته. وأكد الحميدي أن الشريعة جاءت لتكون صالحة للتطبيق والعمل في كل زمان وفي كل مكان، ليس لها خصوصية بعهد النبوة دون غيره، ولذلك ختمت النبوة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لتبقى شريعته صالحة للتطبيق، مقدمة للحلول لكل المستجدات ولكل الظواهر ولكل الأمور، هذا مبدأ مهم، والمبدأ الثاني قضايا الشريعة لا تتناقض ولا تتقابل بل تتكامل وإنما الخطأ هو في الفهم كما قال الشاعر: وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيمِ فمفهومنا أو مفهوم بعضنا لبعض القضايا قد يكون مجتزأ وقد يكون مختلاً وقد يكون ناقصاً، فيفهم القضايا الكبرى من جانب دون جوانب أخرى، ولذلك أذكر أن الشافعي - رحمه الله - بين أن القضايا الكلية التي تتعلق بمصائر الأمة ومصالحها الكبار لا يستقل نصٌ واحدٌ أو دليلٌ واحدٌ بتأسيسها وفروعها ونتائجها من كل جهة، فمن الخطأ أن تبنى القضية الكلية على دليل جزئي أو فرعي أو واقعة عين دون النظر إلى بقية الاستثناءات وبقية المخصصات وبقية النصوص الأخرى التي تؤصل لأحكام هي لا تقدح في الأصل ولا تلغيه، ولكنها تكمله وتبينه، وتحقق المصلحة الكبرى للأمة في مجموعها، فالقضية التي أشرت إليها هذه قضية الولاء والبراء كبيرة وعظيمة وأصل كما قلنا من الأصول التي بنيت عليها قضايا الإسلام وعلاقات المسلمين، وأمور الذمة ليست أمورا اجتهادية، إنما هي أمور منصوص عليها ومارسها النبي - صلى الله علية وسلم - تطبيقاً عملياً ومارسها الخلفاء الراشدون وأئمة المسلمين منذ زمن، بل إن الشرع عمم عقد الذمة وجعله حقا لكل مسلم يملك أن يعطي ذمته وعهده وتأمينه، الذمة تعني تأمين المسلم لغير المسلم على دمه بالدرجة الأولى، وعلى ماله وعلى عرضه حال دخوله في بلاد المسلمين التي يحكمها المسلمون ويقيمون فيها، وهذا روعي فيه في الجانب الشرعي قضية المصالح الكبرى، لأن المسلمين يحتاجون في حكوماتهم وفي أفرادهم وتجاراتهم ومعاشهم للاتصال بالعالم والاتصال بالأمم الأخرى مسلمها وكافرها بارها وفاجرها ليأخذوا ما يرونه صالحاً لهم وما يقيمُ أمورهم وما يؤمنُ حدودهم وما يراعي مصالحهم التجارية والمالية. فبالتالي شرع الله سبحانه وتعالى وطبق النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمم هذا الحكم. حقوق ولي الأمر وأضاف الحميدي: أما إذا انتقلنا إلى المصالح الكبرى للأمة كقضايا السلم مثلاً والحرب والعلاقات الكبرى مما تتعلق به مصائر الشعوب ومصائر المجتمعات، فهذه لا يستقل بها أفراد، وإنما تتوقف على قرار الحاكم الشرعي، ولي الأمر القائم على هذا المجتمع أو ذلك البلد أو تلك الدولة بما يراهُ محققاً لمصالح بلده مؤمناً لحدوده، مؤمناً لأفراده ورعاياه التابعين لهُ ليأمنوا على أنفسهم حال تجولهم في الأرض، لا بد من عقود مشتركة، لا بد من عهود متبادلة، لا بد من ذمم مرعية من الطرفين، وهذا ما يسمى بعقد الذمة، إذ لولاها لما تمكن المسلمون أن يرحلوا هنا وهناك ويضربوا في مناكب الأرض ويخالطوا غيرهم، ويتعرف غير المسلمين على المسلمين من خلال معاملاتهم وأخلاقهم، والمقصود الأصلي بذلك حفظ دماء المسلمين وأعراضهم وممتلكاتهم بعقد معاملة تقابلية مقابل ما يحفظونه من مصالح الأمم الأخرى، كما نص عليه الإمام البخاري - رحمه الله - في أواخر كتاب الجهاد، وهي حكمة بليغة من الإمام البخاري، لأن الجهاد بمفهومه المتبادر للذهن يعني القتال والحرب مع الأمم الأخرى، حيث ذكر أبواب الجزية والموادعة والمسالمة والمصالحة وعقود الذمة، ليبين أنها تحقق مصالح عظيمة مثل ما يحققه الجهاد وربما في حالاتٍ كثيرةٍ متنوعة أعظم وأكبر، كما ذكرنا في حلقة سابقة أن صلح الحديبية الذي ينص على أن تقف الحرب وقوفاً تاماً مع المشركين من قريش وغيرهم أكثر من عشر سنوات، وتكون بين الجميع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "عيبة مكفوفة" ومعنى "عيبةٌ مكفوفة" صدورٌ سليمة وعهودٌ مراعاة وذمامٌ مصانة، فلا يمكن للمقابل الكافر أن يرعى عهدك وذمتك إذا كان بعض أفرادك وبعض المنتسبين لك وبعض الداخلين تحت ولايتك يغدرون بهذه الذمم، وبالتالي تقع مفاسد عظيمة، فنتج من هذا الصلح - كما نص عليه الإمام الزهري - في السنتين اللتين أعقبتا صلح الحديبية قبيل فتح مكة أكثر مما دخل الإسلام خلال المرحلة السابقة كلها من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي فيها الصراع وفيها القتال وفيها بدر وأحد والأحزاب وغيرها على جلالة قدر هذه المشاهد وعظيم مقامها، بسبب أن المسلمين - كما قال ابن القيم - اختلطوا بالمشركين والمشركون بالمسلمين، وساح الجميع في ديار بعضهم وأرض بعضهم وعرف كثير من المشركين حقائق الإسلام وأخلاق المسلمين التي من أعظمها وفاؤهم بذمتهم وذمة إمامهم ونبيهم - عليه الصلاة والسلام - مع أن ظاهر شروط صلح الحديبية كان فيها ضيم للمسلمين وأغضبت كثيرا من الصحابة. وبين الحميدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم – عندما كان يأخذ البيعة من الناس كان يأخذها منهم على جهتين اثنتين الجهة الأولى على أنه النبي المرسل الخاتم - عليه الصلاة والسلام - الذي لا يؤخذ الدين ولا الشرع ولا القرآن إلا منه، وهذه البيعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - مستمرة إلى اليوم، فنحن المسلمين عندما نقول أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، كل مسلم يقولها إلى قيام الساعة فهو يعقد بيعته وديانته وولاءه التام لرسول الله عليه الصلاة والسلام يطاع فيما أمر ويجتنب ما نهى عنه وزجر، ولا يعبد الله إلا بما شرع، والجهة الأخرى وهي الأهم والتي نعتبرها هي الأصل أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يأخذ البيعة من الناس على أنه هو الإمام وهو القائد وهو الرائد، فيسلمون له بالطاعة لأنه لا بد لكل تجمع بشري عضوي حركي لا بد له من رأس يقوده كما قال الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا منهج مستمر وأشار الحميدي إلى أن هذا استمر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل من يلي الأمر بعده، ولذلك في تراجم البخاري في الصحيح وفي تراجم الشراح في صحيح مسلم وفي تراجم الترمذي في كل أبواب الإمارة والخلافة جميع الفقهاء يأتون لمثل هذه الأحاديث كصلح الحديبية فيسمونها باب تقدير الإمام المصلحة في مصالحته الكفار ولا يقولون النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه ليس قضية مرحلية تتعلق بشخص ينصرم باعتباره ينفذ ما أوحاه الله إليه، وإنما هو يفرض ما أوحاه الله إليه ليكون منهجاً وهدياً وسنة ًبعده وإلا فإن الشريعة كلها تصادر بمثل هذا المدخل، وقد يقول شخص إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي لأنه رسول الله، ونحن نريد أن نصلي بصلاة تخصنا أو نقدرها نحن وآخر يقدر شيئا في باب الزكاة والآخر الثالث يقدر شيئا في باب المحرمات الكبار، وقد قرأت بعض الكتب – يقول الحميدي - كتبها بعض الكتاب المتأثرين ببعض الأفكار كالشيوعية يعتبرون كل ما أسسه النبي صلى الله عليه وسلم في الشرع قضية مرحلية خاصة بمرحلته الزمنية، وغير صالحة لما بعده، كتحريم الربا مثلاً يقول هي سياسة اقتصادية اقتضاها زمنه، وتحريم الزنا مثلاً سياسة اجتماعية اقتضاها زمنه، فبالتالي تصادر الشريعة بمثل هذا المدخل، مشيرا إلى أن الخلفاء الراشدين من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم استنوا بسنته في ذلك، ولذلك علي بن أبي طالب الذي كتب صلح الحديبية لما اشترط المشركون أن يمسح وصف الرسالة للرسول - صلى الله عليه وسلم - أبى علي رضي الله عنه وقال لا أمحوك أبداً، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - قلما وأشير له إلى موضع وصفه بالرسالة فمحاهُ ثم أمر فكتب اسمه - عليه الصلاة والسلام - ثم قال لعلي وهذه وجدتها عند الترمذي: لتأتين لها يوماً من الأيام ولتذكرن هذا، يعني أنت ستكون يوما من الأيام إماما وقائدا وتحتك رعية تراعي مصالحهم وستضطر إلى قبول بعض الشروط التي في ذاك الوقت ترى عليك فيها ضيما لأنك ترى أن مصلحة من معك توافق ذلك وهذا ما حصل في قضية التحكيم، حتى قيل إن عليا بكى لما جاءت القضية، وقال صدق رسول الله وبلغ عليه الصلاة والسلام وذكر هذه القصة، فدل على أن النبي - عليه الصلاة والسلام - يعطيهم الشرع. وأضاف الحميدي مستشهدا بحديث أخرجه الإمام البخاري ورأى فيه عبرة ويؤسس لهذه القضية تأسيسا عظيما، فقد أخرج البخاري في أبواب الهجرة التي جعلها مقدمة لكتاب المغازي كله حديث أبي هريرة الذي يقول فيه: حج أبو بكر - رضي الله عنه - أيام خلافته فرأى امرأة في الموسم ساكتة لا تتكلم، هكذا في الصحيح فسأل ما بالها لماذا لا تتكلم؟ قالوا إنها نذرت أن تحج مصمتة يعني ساكتة، لا تتكلم، كذا رأت أن هذا نذر عظيم، فدعاها الصديق أبو بكر وقال: يا هذه تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، لا يغير في حجك بل هو من سنن الجاهلية وأعمالهم فتكلمت فكان أول ما تكلمت سألته قالت له: من أنت؟ قال أنا رجل من المهاجرين، وهذا سبب إدخال البخاري الحديث في كتاب الهجرة، قالت من أي المهاجرين؟ قال من قريش، قالت من أي قريش؟ قال إنك لسؤول، أنا أبو بكر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته سؤالا عظيما، قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاءنا الله به، قال الحافظ في الشرح تعني بهذا الأمر الصالح ما جاء الله به من الإسلام بعد الجاهلية واجتماع كلمة المسلمين على إمامهم بما يحقق مصالحهم، هكذا نص الحافظ ابن حجر في فتح الباري فقال لها أبو بكر الصديق: ما استقاموا لأئمتهم واستقامت لهم أئمتهم، هذا في البخاري، فالصديق - رضي الله عنه - وهو الآن في موضع الإمامة والقيادة للأمة وهو من هو في فرضه وشرفه إذ لا يسبقه أحد من المسلمين هو أفضل الأمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا شك وفضائله كثيرة وعلمه غزير رضي الله عنه، قال: ما استقاموا أي الرعية لأئمتهم، وما استقامت لهم أئمتهم، ففيه تقابلية لا بد من استقامة الجهتين لتقع المصالح الكبرى، الأمر الصالح الذي جاءنا الله به ومنه اجتماع الكلمة، فسألت سؤالاً آخر قالت: ما الأئمة؟ قال: ألم يكن لقومك في الجاهلية رؤوس يصدرون عن رأيهم؟ قالت بلى، قال كذلك هم من الناس، رؤوس تصدر الأمة عن رأيهم واجتهادهم وقيادتهم ولهم يعني مصلحة أو صلاحية معينة هي مقتضيات الإمامة بتقدير المصالح العظيمة التي تحدثنا عنها، فهذا يرد على شبهة من قال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك باعتباره نبياً يوحى إليه فقط، لا باعتبار مقامه كإمام وقائد، يرد عليه باستمرار الخلفاء الراشدين والأئمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على أفعاله من عقود المصالح وعقود الذمم، ولا تقدح ولا تؤثر من قريب ولا من بعيد في ولاء الإمام ولا ولاء الأمة الإسلامية ولا ولاء المجتمع لله ولدينه ولكتابه. بين الشورى والاستقلالية واستطرد الحميدي مبينا أن عقد البيعة للإمام يعطيه صلاحية أن يطاع أمره ويستقل بالمصالح الكبرى وبالأمر ما دام لم يأمر بمعصية صريحة لله، ومع ذلك مع استقلاله بهذه الأهلية والصلاحية التي صارت له بحكم اجتماع الكلمة وعقد البيعة من التوفيق والرشد أن يستشير الأمناء والراشدين والعقلاء وأهل العلم كلٌ في تخصصه سواء بمجالس الشورى، أو بلجان تدرس جوانب معينة وتعطيه رأياً ناضجاً فيها وبالتالي يتبناه أو لا يتبناه، بحسب ما يراه هو أيضاً باستقلاله واجتهاده ونظره في مصالح من يتبعه وما تحت ولايته وعقده ورعايته والذين أعطوه البيعة وثقتهم ليكون إماماً عليهم، فالاستشارة هي من المصالح الكبرى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه هو المؤيد بالوحي لكن كان يستشير، ولذلك يقول العلماء كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستشير في العقود التي فيها المصالح الكبرى للأمة باعتبار مقام إمامته وولايته، أما القضايا الدينية فلا يستشير فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يوحى إليه "صلوا كما رأيتموني أصلي"، و"خذوا عني مناسككم" فلا يستشير الصحابة هل نقف في عرفة أو نقف في مزدلفة؟ هل نصلي الظهر أربع ركعات أو اثنتين؟ لأن هذا مقتضى النبوة، لكن يستشيرهم مثلا هل نخرج للمشركين خارج المدينة أو نتحصن في المدينة فيستشير أكثر الصحابة وربما خص بالاستشارة بعضهم وربما خص بالاستشارة أبا بكر الصديق فقط حسبما يقتضيه الحال، ويرى هو أنهم سيعطونه الرأي الصائب، حتى قال أبو هريرة: ما رأيت أحداً - وهذا عند الحاكم في المستدرك والترمذي - أكثر مشورة لأصحابه فيما لا يوحى إليه شيء من النبي - صلى الله عليه وسلم -. استشارهم وأخذ برأي الحُبابة بن المُنذر في منزل بدر، أخذ برأي الصحابة وأكثرهم في الخروج إلى أحد، أخذ برأي أبي بكر في قبول الفدية في الأسراء وغير ذلك من الأمور الكثيرة. إخراج المشركين وعرض الحميدي لمسألة أخرى لها علاقة بموضوع الذمة متطرقا إلى الحديث الصحيح "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"، مبينا أن المراد بالحديث ليس من دخلوا المملكة مثلاً بعقود معينة تجارية أو طبية أو غيرها وأعطاهم الإمام أو حتى غير الإمام من الذين استقدموهم لأعمال خاصة ذمتهم، وإنما الحديث فيمن كان موجوداً ومستقراً في الجزيرة من المشركين قبل ظهور الإسلام، وكان أهلها مشركين قبل الإسلام، ولما بعث النبي – صلى الله عليه وسلم - أخذ العرب يسلمون شيئاً فشيئاً، إلى أن غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة وهي آخر غزوة غزاها النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى كما قال ابن سيد الناس في السيرة لم يعقد النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد غزوة تبوك راية ولا جهز سرية إلا جيش أسامة الذي توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن ينفذ فنفذه أبو بكر جهة بلاد الشام، لما رجع من غزوة تبوك - عليه الصلاة والسلام - كان لا يزال في الجزيرة بعض القبائل وبعض الأفراد ما زالوا على شركهم الأول وكانوا يحجون البيت على عادتهم في مواسم العرب قبل الإسلام، فكره (هكذا في الحديث) كره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحج سنة تسع ويخالطه المشركون في حرم الله ومشاعره فأوفد أبا بكر الصديق ليقيم للناس حجهم وأوفده بالكلمات التالية ومعه علي بن أبي طالب بصدر "سورة براءة" في نبذ عهود المشركين الذين كانوا موجودين إليهم وألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عُريان وأن من كان له مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد فعهده إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فمدته أربعة أشهر على قوله تعالى: "فسيحوا في الأرض أربعة أشهر" فحج أبو بكر الصديق فبلغ هذا لبقايا المشركين من قبائل العرب، فنتج من ذلك أن وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - كل من بقي مشركاً في تلك السنة التي سميت سنة الوفود، فما بقي قبيلة عربية في جزيرة العرب كلها إلا وفدوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلموا فحصل أنه انتفَى خروج المشركين لا بالإخراج ولكن بالإسلام، ولذلك أخرج البخاري في كتاب التفسير من الصحيح عند تفسير هذه الآية "براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين. فسيحوا في الأرض أربعة أشهر" حديث حذيفة قال لم يبقَ من أهل هذه الآية إلا أربعة نفر أحدهم شيخٌ كبير لو شرب الماء البارد ما وجد له طعماً، فإخراج المشركين من جزيرة العرب هو كقوله تعالى "براءةٌ من الله ورسوله" الذي نزل لبيان أن من بقي من المشركين لا عهد لهم، وهو معنى قوله أخرجوا المشركين من جزيرة العرب فالمقصود من كان باقياً من المشركين، أما من ينفذ ويدخل بعد ذلك بعقود الذمام لمن استخلفهُ الله وولاه أمر المشاعر ومكة والبيت والجزيرة العربية فهذا لا علاقة له بهذا الحديث، ولذلك قلنا كان المشركون موجودين بمختلف أديانهم في عهد الخلفاء الراشدين من يهود، معاملة النبي ليهود خيبر استمرت على أن يزرعوا خيبر وهي بقرب المدينة ونصف الثمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والنصف الآخر لهم واستمروا على عهد أبي بكر، ولم يطبق عليهم أخرجوا المشركين من جزيرة العرب لأنه صار بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عقد وعهد وميثاق بشرط ألا يخونوا ولا يغدروا. يذكر أن أطروحات الدكتور الحميدي أثارت النقاشات والجدل، وقد ظهرت بعض الردود المتشنجة في بعض المنتديات التكفيرية، كما أن هناك ردودا وتعليقات في بعض المواقع الإلكترونية نسبت للمقدسي إذ على ما يبدو أن الدكتور الحميدي بوصفه متخصصا في العقيدة قد أزاح الستار عن كثير من الأساليب غير المنهجية وغير الموضوعية التي حاول المقدسي ومن هم على منهجه توظيفها لإثارة الفتنة بين الشباب مستغلين الإحباطات السياسية والاقتصادية التي تمر بها كثير من المجتمعات العربية والإسلامية.