تبقى ثلوثية الأديب محمد بن عبد الله الحميد - يرحمه الله - في مقدمة الصالونات الثقافية على مستوى المملكة بصفة عامة، ومنطقة عسير بصفة خاصة؛ لتنوع فعالياتها واستمراريتها. هذه المنصة الثقافية ينتظم عقدها كل شهر في أجياد غصون الفكر، والتراث، يضيء مساءَها كوكبةُ من الأدباء الإعلاميين التربويين، ويُحسب لها حضور، ومشاركة الجيل الجديد من المثقفين الذين يحظون بالترحيب. ويقف وراء هذا التألق المستمر أهل الدار، من أبناء الأديب الراحل الدكاترة: عبدالله، أحمد، سليمان. وبتواضع الكبار وسمات الوقار يتقاسمون النجاح في أجواء يفوح منها عبق التاريخ، حنين التراث، أصالة الأدب، ثراءُ الفنون، فتزهو لحظات إبداع، تُلفتُ الانتباه، وتجذب الاستماع. كان الموضوع الرئيس في ثلوثية الشهر المنصرم «التراث الشفوي بين الصون والتجديد»، استعرص من خلاله المهندس علي بن محمد القبيسي معلومات مركزة حول خصائصه واَليات حفظه، كونه يمثل الهُوية الثقافية الحافلة بالقصص، الفنون العادات، الحكايات، الأساطير وغيرها. بعد ذلك دارت حوارات بين المتحدث والحضور حول أساليب الحصول على معلومات من الرواة «كبار المواطنين» وأهمية التوثيق الجيد صوتاً وصورة وصولاً إلى التدوين. وقد تحدثت في مداخلتي عن الجانب الإعلامي الذي يلعب دوراً مهماً في تسجيل المزيد من النقولات الشفوية بشرط وجود محاور محترف، لديه موهبة وثقافة تمكنه من تحريض ذاكرة الضيف، للخروح بمعلومات ترتقي إلى مستوى وثيقة تحمل قيمة ومعنى، وليس مثل ما نشاهده اليوم، على وسائل التواصل لبعض اللقاءات التي يظهر فيها ضعف المحتوى بسبب عدم الاستعداد الجيد، وتشتيت الأسئلة وسوء اختيار الوقت والمكان، فتأتي النتيجة باهتة دون فائدة تُذكر. وألمحت إلى الفرق بين لقاء عام يستهدف ذكريات الطفولة، الدراسة، العمل، سيرة حياة، ومقابلة خاصة عن موضوع مهم مثل التراث تتطلب تحضيراً جيداً، وثقافة عالية، إضافة إلى التدرج في الحوار، وعدم المقاطعة التي تؤدي إلى تشويش ذاكرة الضيف. وفي مداخلة للأديب التربوي مؤلف كتاب «الأستاذ» محمد بن عيسى الراقدي أكد أن المحاور المحترف والقارئ الجيد للتاريخ يستطيع التوغل في ذاكرة الراوي، للخروج بمعلومات عن أنماط حياة الماضي، وعندما تأتي الإجابات هزيلة فذلك يعود إلى من قام بإجراء اللقاء، وفاقد الشيء لا يُعطيه. وإذا كانت تقنيات عصرنا الرقمي جعلت من الهاتف النقال محطة إعلامية ومكنت من التصوير والكتابة وإجراء اللقاءات، فإن مهمة تسجيل وتدوين التراث الشفوي مسؤولية ليست سهلة كما يتصورها البعض، ولا بد من توفر الخبرة، وحكمة الأسئلة، فبهما يتم تحريض ذاكرة الضيف لتنثال منها ملامح من بقايا الأمس، وما سجلته محطات العمر من الحكايات، الشيم، العادات وغيرها. وقفة: يقول نجيب محفوظ: يمكن معرفة ذكاء الشخص من إجاباته، لكن حكمة الإنسان من المؤكد أنها تُعرف من أسئلته.