مع مطلع عام 2026، لا يبدو الحراك الثقافي في المملكة امتدادا اعتياديا لما سبقه، بل بداية واضحة لمرحلة أكثر وعيا بدور الثقافة في تشكيل الصورة، وبناء التأثير، وإدارة الحضور على المستويين المحلي والدولي. البداية هنا ليست صاخبة، لكنها محسوبة؛ تبدأ من القارئ، ومن المدينة، ومن تجربة ثقافية تُبنى بعناية. في هذا السياق، تُدشّن هيئة الأدب والنشر والترجمة هذا المسار مع انطلاق النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء في الطائف خلال الفترة من 9 إلى 15 يناير 2026، تحت شعار «حضورك مكسب» في توقيت يحمل دلالة رمزية واضحة.. أن يكون الكتاب أول ما يستقبل به العام الجديد. اختيار الطائف في هذا التوقيت لا يُقرأ بوصفه قرار تنظيمي فحسب، بل باعتباره رسالة ثقافية متكاملة. مدينة ذات حضور أدبي راسخ، ومكانة عالمية ضمن شبكة اليونيسكو للمدن المبدعة، لتكون نقطة انطلاق لعام يُراد له أن يُعيد الاعتبار للثقافة بوصفها ممارسة يومية، لا نشاطا نخبويا. اللافت في هذا النوع من الفعاليات أن الرسائل لا تُقدَّم مباشرة، بل تُبنى عبر التجربة. الزائر لا يُطلب منه أن يتلقى، بل أن يشارك، ويتفاعل، ويختار مساره داخل فضاء مفتوح يجمع بين الحوار، والمعرفة، والترفيه. هذا التكوين يعكس فهما دقيقا لطبيعة الجمهور المعاصر، الذي لا ينجذب للشعارات بقدر ما يثق في التجربة. في سياق الإعلام الرقمي، تُعد هذه المقاربة أكثر تأثيرا من أي خطاب تقليدي. الصور، والمقاطع، والحوارات القصيرة، وتجارب الأطفال مع كتبهم الأولى، تتحول تلقائيا إلى محتوى متداول، يحمل رسالة ثقافية دون أن يرفع لافتة دعائية. هنا تُبنى الصورة الذهنية بهدوء، ويُعاد تعريف الثقافة باعتبارها جزءًا من أسلوب الحياة. ومن زاوية أوسع، ينسجم هذا الحراك مع مفهوم القوة الناعمة في أكثر صورها نضجا؛ حيث لا تُفرض الرسائل، بل تُترك لتتشكل في ذهن الزائر. كل تجربة إيجابية، وكل حوار مفتوح، وكل ارتباط بالمكان، هو لبنة في خطاب غير مباشر، يخاطب الداخل، ويصل إلى الخارج دون وساطة. بهذا المعنى، لا يُقدم عام 2026 بوصفه عاما ثقافيا بالمعنى الاحتفالي، بل عام يبدأ من أساس متين.. الإنسان، والكتاب، والمكان. بداية هادئة في توقيتها، لكنها قوية في دلالتها، وتؤشر بوضوح إلى أن الثقافة لم تعد هامشا في المشهد العام، بل في صلبه.