ليس من السهل أن تضع شخصية بحجم، بدر شاكر السياب، تحت المجهر، لكن الأصعب والأخطر هو الطريقة التي يتم بها هذا الفعل، فالنقد مهما كان جريئًا يفقد شرعيته حين يغادر ميدان الفكر والنص، ويتسلّل إلى ميدان الجسد والشكل والهيأة. وصف السياب بأنه ضعيف الشخصية، أو مهمل المظهر، أو استدعاء تفاصيل شكلية لا علاقة لها بإبداعه، لا يمكن تبريره أخلاقيًا ولا نقديًا، سواء قُدم على هيئة هجوم مباشر أو غُلف بادعاء «التعاطف الإنساني»، فالتعاطف القائم على الشكل ليس تعاطفًا، بل استعلاء نفسي مقنع، يُنزل الآخر من مقام الإنسان المفكر إلى «حالة» تُستدر لها الشفقة. المشكلة لا تكمن في نقد السياب بوصفه إنسانًا متناقضًا أو صاحب تحوّلات فكرية وسياسية، فهذا نقد مشروع، بل وضروري، إنما تكمن في تحويل المظهر الخارجي إلى أداة حكم قيمي، وهو مسار لا ينتمي لأي مدرسة نقدية محترمة، بل يندرج ضمن الإسفاف الثقافي. الأخطر من ذلك أن هذا الخطاب يُمارَس أحيانًا بحق رجل متوفٍ منذ عقود، والموت في كل الثقافات الإنسانية للمواطنين لا يُسقط الكرامة، بل يضاعف مسؤولية الأحياء فيما يقولون، فالحديث عن شكل الميت أو استدعاء ضعفه الجسدي أو آثار مرضه وفقره ليس نقدًا ولا توثيقًا، بل استقواء رمزي على من لا يستطيع الرد. إثارة التعاطف عبر الهيئة هي نوع من التنمّر الناعم، لأن الشفقة ليست حيادًا أخلاقيًا بل علاقة قوة، طرف أعلى يُشفق، وطرف أدنى يُشفق عليه، وحين تصدر هذه اللغة من أديب، فإنها تتحول من رأي فردي إلى تشريع ثقافي للدونية. النقد الحقيقي لا يكسّر الأصنام عبر تحطيم ملامح أصحابها، بل عبر مساءلة أفكارهم ونصوصهم ومواقفهم، أما الجسد فهو خارج المعركة لأنه لا يقول شيئًا عن قيمة العقل أو أثر الإبداع. السياب شاعر كبير، لا لأنه معذّب أو مريض أو فقير، بل لأنه غيّر شكل القصيدة العربية، ومن يريد أن يختلف معه أو يعيد قراءته فليختلف معه هناك.. في الشعر، في الفكرة، في الموقف، لا في المرآة. فالنقد الشجاع لا يحتاج وقاحة، والجرأة الفكرية لا تمر عبر التنمّر.