يحتل علم التاريخ مركزًا متقدمًا في حقول المعرفة الإنسانية، ويُصنف بانه ذاكرة الأمة، وجسر التواصل بين الأجيال، ورغم ذلك لم يسلم عبر العصور من محاولات التجريف، وادعاءات أملتها الأهواء لاستلاب العقول، وتحجيم الوعي، وقضم الأدلة من خلال «مفرخين» للفتن والعبث والتزوير. وترتب على ذلك منذ عقود مطالبات بإعادة قراءة بعض الموضوعات التاريخية، وتحليلها، ومعرفة سياقاتها، أوإعادة كتابتها على أسس منهجية علمية، دون القفز على معطيات واضحة. ويرفض البحث العلمي السليم، في أبسط قواعده، والأمانة العلمية، وأخلاق الباحثين، والقارئ العادي كل من يدعي أمتلاك الحقيقة لوحده، ويسعى إلى تهميش إرث تراثي ضخم، والإجحاف في جهود الرواد من المؤرخين. وأنا هنا لا أتهم في مقالي أحدًا، أو أرجح رأيًا على الآخر، ولا أقلل من كتاب بعينه، بقدر ما هناك رغبة عندي ومعي الكثير من القراء للوصول إلى أرضية مشتركة بين المختصين في تاريخ عسير لكشف الغموض، والإجابة على جميع التساؤلات. وإذا كنا نستلهم من التاريخ العبر، فكم وكم سقطت وتلاشت كتب أنكر مؤلفوها وجود أرُومات متجذرة للإنسان، وأهملوا جغرافية الأماكن، وشككوا في نشاطاته واستقراره، وعمارته للأرض منذ عشرات القرون، وأغفلوا شواهد الآثار، النقوش، الوثائق، المخطوطات الأصلية إلى جانب دراسات موثقة لمؤرخين، وباحثين أفنوا أعمارهم في هذا المجال. في الأسبوع الماضي اطلعني الإعلامي الكاتب الصحفي، الدكتور صالح بن ناصرالحمادي، على مقاله الذي تم نشره وأحدث ردود أفعال في الوسط الثقافي، والاجتماعي، ليعيد للأذهان خبطاته الصحفية التي لازال صداها. وأكبرت في «أبي رائد» حسه الإعلامي المتقد وحصافة رأيه، بعد أن ألمح بإبجاز عن كتاب تناول جوانب من تاريخ منطقة عسير، ودعوته المختصين والمهتمين إلى دراسة ما تضمنه الكتاب، والتحقق من معلوماته، والكشف عن مصادره بأسلوب علمي ونقد موضوعي رصين بعيدًا عن الإثارة والانفعال. وحين ألمح الدكتور الحمادي إلى ذلك الإصدار فليس معناه بالضرورة موافقته عليه، والترويج له، وأعتقد أنه أنار حزمة ضوء وسط الطريق؛ لعل من يأتي يُصحح المسار، ويُزيل الغموص إذا كانت هناك أخطاء، ويفتح نافذة من الحوار البناء، وقبل أيام اتصلت بالصديق الأديب الأستاذ بجامعة الملك خالد، الدكتور أحمد بن محمد الحميد، وجرى الحديث بعفو الخاطر عن كتاب صدر العام الماضي. قلت له.. لقد عكس المؤلف شخصيته الثقافية في التأليف كحاطب ليل، وأهمل تدقيق المصادر، وخلط المعلومات، ولم يُنزل الناسَ منازلهم.. قال لي: للأسف الشديد ذلك ما لاحظته من تسرع البعض في التأليف، وهذا يفقد أعمالهم المصداقية، ويعجل بخروجها إلى دوائر النسيان. يقول الكاتب أحمد المنزلاوي في كتابه «للتاريخ أقوال آخرى»: عندما نذكر التاريخ نذكر على الفور الوثائق، وهي أرقى أنواع المصادر والمستندات التي لم يرد مُنشؤوها أن تكون شاهدًا على التاريخ في عصره، لكنها تشهد عليه بعده، وأن بقاءها يجعلها مصدرًا على الواقعة وأصحابها.