تتحرك الأفكار اليوم بسرعة أكبر من أي وقت مضى تولد في لحظة وتنمو في جلسة نقاش أو تأمل عميق وقد تتغير حياتها كلما مرت على مستشار أو صاحب تجربة أو بحث واطلاع موسع، ومع هذه السرعة تبقى «أمانة الابتكار» قيمة لا يمكن التفريط بها فهي التي تحفظ الثقة بين الناس وتضبط التعامل حين تكون الفكرة في بداياتها هشة قابلة للتأثير والانحراف أو حتى لو عُرضت الفكرة مكتملة واحترافية. وغالبًا ما تبدأ الفكرة بسبب موقف ملهم أو مشكلة يومية تمت ملاحظتها أو استنتاج بسيط ينمو مع الوقت حسب عزم صاحبه وجديته في تطويره لكنها قد تقطع في طريقها إن لم يتم توثيقها وحفظ حقوقها. جاءت الشريعة لتعظم شأن الأمانة في كل ما يستودع عند الإنسان ماديًا كان أو معنويًا ومن جملة ذلك ما يقال طلبًا للنصح أو الاستشارة فقول النبي صلى الله عليه وسلم «المستشار مؤتمن» تكليف صريح بأن ما يسمعه الإنسان في هذا المقام أمانة في ذمته لا يجوز له أن يلتقطه لنفسه أو يعيد تشكيله على حساب صاحبه ولا أن يحوله إلى مشروع ينافسه به. كما أن القاعدة النبوية الجامعة «لا ضرر ولا ضرار» ترسم حدًا فاصلًا بين الإلهام المباح والاستغلال الممنوع فالتصرف في فكرة غيرك بطريقة تضره أو تقطع طريقه أو تهمش جهده يدخل في معنى الضرر ولو ظن بعض الناس أنه مجرد «ذكاء تجاري» أو «اغتنام فرصة». الفكرة التي تقال بعفوية لا تتحول إلى حق لمن سمعها لمجرد أنه سمع، ومن الإنصاف أن يكون أول رد فعل عند السامع حماية لصاحب الفكرة لا مزاحمة له فيها أن يذكره بعدم الإسهاب في التفاصيل وأن يدله على طريق الحماية أو ينصحه بأن يبدأ هو بالخطوة الرسمية قبل التوسع في الحديث، أما أن يستقبل البوح الصادق على أنه «منجم مجاني» يمكن التنقيب فيه ثم يعاد صياغة ما قيل في قالب جديد يبدو في الظاهر مختلفًا وفي الجوهر متكئًا على ما سمع فذلك بعيد عن النزاهة وعن الرقابة الذاتية وعن الضمير النقي الذي يفترض أن يحكم تصرفات من يعد نفسه قدوة أو خبيرًا. وفي المملكة العربية السعودية لم يعد الطريق إلى الحماية مجهولًا أو معقدًا؛ الهيئة السعودية للملكية الفكرية توفر عيادات استشارية مجانية أو منخفضة التكلفة حيث يمكن للمبتكر أن يسأل «من أين أبدأ ؟» دون كشف جوهر فكرته ويحصل على إرشاد حول براءات الاختراع أو النماذج الصناعية أو غيرها. كما يوجد خبراء موثوقون على المنصات الرقمية يرسمون الخطوط العريضة وأدوات الذكاء الاصطناعي تساعد في صياغة أسئلة مهنية أو وصف عام للتوجه نحو الجهات الرسمية وحتى لو تم البوح بالفكرة بعفوية فيتم تدوينها فورًا بتاريخ في بريدك الإلكتروني لنفسك أو حوّل حديثك إلى أسئلة عامة مثل «أي حماية تناسب فكرة كهذه؟» ثم بادر بحجز موعد في العيادات قبل أن تتكرر الفضفضة. الابتكار ليس حكرًا على أحد؛ فالمبتكر ليس شخصًا خارقًا، بل مهارة تكتسب بالممارسة والانضباط كما تثبت برامج عالمية مثل Harvard Innovation Labs (مختبرات الابتكار في جامعة هارفارد) فالمبتكر يتعلم ويستنتج أكثر حسب استمراريته وعزمه واستمرار بحثه، والسامع مكلف أمانة ما يسمع شرعًا ونظامًا. لا تستقيم الأمانة إلا بمراقبة الله في السرّ والعلن فهي ميزان القول والعمل، وذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن لم تكن تراه فإنه يراك».