في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتغير فيه الموازين الفكرية والاجتماعية بوتيرة غير مسبوقة، أصبح العالم أكثر انفتاحًا من أي وقت مضى، لكن المفارقة المؤلمة أن المسافات بين البشر أصبحت أبعد من ذي قبل. لقد أتاح لنا التطور الهائل في وسائل التواصل والمنصات الرقمية مساحة واسعة للتعبير وتبادل الآراء، لكنه في الوقت ذاته فتح الباب أمام موجة من التوترات والخصومات وخطابات الكراهية التي جعلت الاختلاف وكأنه جريمة، والرأي المختلف وكأنه إعلان حرب. ومع ذلك، فإن الحقيقة البسيطة التي لا يمكن تجاهلها هي أن الاختلاف ليس عيبًا ولا تهديدًا، بل هو طبيعة إنسانية وسنة كونية لا يمكن إلغاؤها. خلقنا مختلفين في الفكر، وفي الميول، وفي الخلفيات الثقافية، ولو تشابه البشر لكانت الحياة رتيبة خالية من التطور والتجديد. المشكلة ليست في الاختلاف ذاته، بل في طريقة تعامل البعض معه، حين يتحول الحوار إلى معركة، والرأي إلى سلاح، والمنصات الاجتماعية إلى ساحات خصومة بدلًا من أن تكون جسورًا للتقارب. ثقافة الاحتواء هي القيمة التي نحتاج إلى إحيائها اليوم أكثر من أي وقت مضى. الاحتواء لا يعني القبول الكامل، ولا يعني التنازل عن القناعات، ولا يعني إذابة الذات لإرضاء الآخرين، بل يعني ببساطة أن نرى الإنسان قبل رأيه، وأن نفهم دوافعه قبل أن نحكم عليه، وأن ندرك أن الاختلاف لا ينتقص من قيمة العلاقة، بل قد يضيف إليها بعدًا إنسانيًا عميقًا ما دام قائمًا على الاحترام المتبادل. الحوار الذي يخلو من الاحترام يتحول إلى جدل عقيم، أما الحوار الذي يقوم على الإصغاء والهدوء والاعتراف بحق الآخر في التفكير المختلف فهو الذي يبني مجتمعًا صحيًا قادرًا على التطور بدلًا من التمزق.وإذا كان العالم اليوم يواجه تحديات كبيرة في هذا الجانب، فإن البحرين تمثل مثالًا جميلًا ومشرقًا لقيمة التعايش. فمنذ عقود طويلة، تميّز المجتمع البحريني بتعدد معتقداته ومذاهبه وانتماءاته مع بقاء الروح البحرينية قاسمًا مشتركًا يجمع الجميع. في البيوت القديمة، وفي الأسواق، وفي المناسبات الدينية والاجتماعية، كان الناس يتعاملون مع بعضهم البعض كعائلة واحدة مهما اختلفت المعتقدات والخلفيات. وهذه الروح الأصيلة هي التي حفظت وحدة المجتمع، وهي التي تستحق أن نعيد إحيائها في نفوس الأجيال الجديدة، حتى لا تضيع وسط ضجيج العالم الحديث. إن إعادة بناء ثقافة الاحتواء مسؤولية مشتركة، تبدأ من الأسرة في أسلوب تربيتها، ومن المدرسة في منهجها التربوي، ومن المؤسسات في ممارساتها الإنسانية، ومن الإعلام في ضبط لغة الخطاب، ومن كل فرد في طريقة تفاعله على منصات التواصل الاجتماعي. كلمة واحدة يمكن أن تداوي، وكلمة أخرى قد تجرح، وكل عبارة نكتبها أو ننطق بها إما أن تصنع بناءً أو تهدم جسرًا. لذلك فإن مسؤوليتنا الأخلاقية اليوم لا تقل أهمية عن مسؤوليتنا الاجتماعية، فالاحترام ليس مجاملة، بل واجب إنساني يمنح كل شخص حقه في الوجود دون خوف من الإدانة أو السخرية أو الاستبعاد. والسؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو: هل نبحث عن الانتصار في النقاش أم نبحث عن بناء علاقة إنسانية صحية؟ هل نريد أن نثبت أننا على حق، أم نريد أن نصنع بيئة يمكن للجميع فيها التفكير والتعبير دون خوف أو قلق؟ الحقيقة أن الاحتواء لا يغيّر القناعات، لكنه يغيّر أسلوب الحياة. ولا يجعل الناس متشابهين، لكنه يجعلهم أقرب. ولا يفرض أفكارًا، لكنه يفتح الأبواب أمام قلوب صادقة تعرف كيف تختلف دون أن تكره. حين نعيد الإنسان إلى مقدمة العلاقة، ونقدم الاحترام على الحكم، والاحتواء على الإقصاء، فإننا لا نحمي المجتمع فحسب، بل نرتقي بإنسانيتنا ذاتها. فالاختلاف ليس نهاية الود، بل يمكن أن يكون بدايته، إذا اخترنا أن نرى الآخر بعين القلب لا بعين الحكم. وعندما نفهم هذه الحقيقة، سنكتشف أن أجمل العلاقات ليست تلك التي تقوم على التشابه، وإنما تلك التي تتسع للاختلاف دون أن تنكسر.