في بعض الصباحات العادية تولد أفكار غير عادية. كنت في مكتبي عام 2023 منشغلاً ببعض الأعمال حين وردني اتصال من الزميل العزيز الدكتور محمد السعيد، أحد الزملاء الذين تشرفت بمزاملتهم في الفريق الفني للطاولة المستديرة. قال لي بصوته الهادئ إن هناك توجيهاً من أصحاب السمو وأصحاب السعادة قادة الطاولة المستديرة بطرح موضوعات نوعية جديدة تُعرض في الاجتماع القادم وتخدم مستقبل القطاع غير الربحي. كانت تلك الدعوة بمثابة الشرارة التي أيقظت في داخلي فكرة آمنت بها طويلاً، فتوقفت عما بيدي وقلت له بثقة ممزوجة بالحماس: «عندي قضية يا دكتور، وهي قضية محمد بن مفلح الحالية والمستقبلية». ضحك مستفسراً عن المقصود، فقلت له: أقصد وأنا أخوك، عندي فكرة أراها ضرورة وطنية، وهي أن القطاع غير الربحي في المملكة يجب أن يكون إحدى أهم أذرع الدبلوماسية العامة، وأنه يملك من القدرات ما يجعله مؤهلاً لتمثيل الصورة الحقيقية للمملكة أمام العالم. كنت أتحدث معه وأنا أستحضر واقع المرحلة المقبلة، فقلت إن العالم تغيّر، والدبلوماسية لم تعد حكراً على البيانات الرسمية أو العلاقات السياسية، بل أصبحت منظومة متكاملة تشمل الدبلوماسية الثقافية والإعلامية والرياضية والسياحية والرقمية والإنسانية الخ، وكلها تشكّل اليوم هوية الدول وقوتها الناعمة. والقطاع غير الربحي هو الأقرب إلى الناس والأصدق في نقل قيم هذا الوطن وإنسانيته لأنه يعمل بلغة الأثر لا بلغة الخطاب. وذكرت له أيضاً أن المملكة أمام فرص وطنية كبرى تلوح في الأفق، ومن المحتمل أن تترشح لاستضافة إكسبو 2030 وكأس العالم 2034، ورغم أنها آنذاك لم تكن سوى إشارات أولى، إلا أنني كنت مؤمناً في داخلي أن المملكة ستحظى بهاتين الفعاليتين، لأن رؤية 2030 تمهد لمكانة عالمية تستند إلى التأثير الثقافي والإنساني بقدر ما تستند إلى الاقتصاد والتنمية. تلك المكالمة لم تكن عابرة، بل كانت لحظة ميلاد لقضية حملتها بعمق. بعدها بدقائق جلست وكتبت العنوان الذي ظلّ قريباً إلى قلبي حتى اليوم: «دور القطاع غير الربحي في الدبلوماسية العامة». بدأت أرسم تفاصيل الفكرة وأضع خطوطها الأولى، موضحاً أن المؤسسات الأهلية والجهات المانحة مطالبة بأن تلتفت لهذا الدور وأن تضعه ضمن أولوياتها الاستراتيجية، وأن الوحدات الإشرافية في الوزارات والجهات الحكومية يجب أن تُدرج هذا المفهوم في خططها بإنشاء جمعيات ومبادرات متخصصة في الدبلوماسية الثقافية والإعلامية والرياضية والرقمية والإنسانية، وأن يُسنَد تنفيذ بعض المشاريع الوطنية في هذا المجال إلى القطاع غير الربحي باعتباره الأقدر على التعبير عن القيم السعودية أمام العالم. وفي الاجتماع الدوري لقادة الطاولة المستديرة، طُرحت عدة موضوعات مقترحة لفعاليات الأعوام القادمة، كان من بينها هذا العنوان «دور القطاع غير الربحي في الدبلوماسية العامة». وقد حظي، ولله الحمد، بقبول واسع واستحسان كبير من أصحاب السمو والسعادة أعضاء الطاولة المستديرة، الذين أشادوا بأهمية الفكرة وراهنيتها، مؤكدين أن هذا الطرح يمثل بُعداً جديداً ومتكاملاً لرؤية السعودية في تمكين القطاع غير الربحي كقوة ناعمة مؤثرة. تلك الإشادة منحتني شعوراً عميقاً بالامتنان والفخر، لأنها أكدت أن الفكرة وجدت صداها في المكان الصحيح، وأن الطريق نحو تحويلها إلى واقع بدأ فعلاً. ومع مرور الوقت، ومع الجهود التي كانت تُبذل على مستوى القطاع، جاء انعقاد ملتقى «دور القطاع غير الربحي في الدبلوماسية العامة» كعلامة فارقة في مسيرة هذا الوعي الجديد. كان الملتقى ثرياً في تفاصيله، مميزًا في حضوره، زاخراً بالأفكار والمداخلات التي أكدت أن المملكة تمضي بثبات نحو تمكين هذا القطاع ليكون جزءاً أصيلاً من قوتها الناعمة. المخرجات التي خرج بها الملتقى كانت واضحة؛ توسيع مفهوم الدبلوماسية العامة ليشمل كل الجهات المؤثرة في المجتمع، تفعيل الشراكات بين القطاعين العام والخاص والقطاع غير الربحي، وتشجيع الجمعيات والمؤسسات الأهلية على خوض مجالات جديدة في الثقافة والرياضة والسياحة والرقمنة لتمثيل الوطن بصورة تليق به. كان الملتقى مشهداً وطنياً ناضجاً جمع الخبراء وصنّاع القرار والمهتمين في ساحة واحدة ليتحدثوا بلغة واحدة عنوانها: «الإنسان هو سفير الوطن الأول». وبينما كنت أتابع النقاشات والجلسات والحضور اللافت، تذكرت تلك المكالمة الأولى، وشعرت أن الدائرة اكتملت. هذه الفكرة التي بدأت في صباح عمل هادئ تحولت إلى حديث وطن بأكمله. ولأنني مؤمن أن القضايا الكبرى لا تُترك في حدود القول، فقد واصلت العمل عليها من خلال بحث علمي قمت به امتد لعامٍ كامل (2024 – 2025م) بعنوان «دور الدبلوماسية الرقمية في الترويج للقطاع غير الربحي في المملكة العربية السعودية: دراسة تطبيقية». استخدمت فيه المنهج الوصفي التحليلي عبر استبانة إلكترونية شملت (384) موظفاً ومنتسباً يمثلون منظمات القطاع غير الربحي في المملكة. هدفت الدراسة إلى قياس أثر ستة أبعاد للدبلوماسية الرقمية، نشر الوعي، الصورة الذهنية، تحفيز المشاركة، الشراكات، القوة الناعمة، ودور المجتمع المدني؛ على أربعة أبعادٍ للترويج المؤسسي للقطاع تشمل الوعي والصورة الذهنية والمشاركة والشراكات. أظهرت النتائج أن الدبلوماسية الرقمية تسهم بنسبة 26.2% في ترويج القطاع غير الربحي، وأن أكثر الأبعاد تأثيراً هي «دور المجتمع المدني» و«القوة الناعمة» و«نشر الوعي» و«تحفيز المشاركة المجتمعية». ومن واقع تلك النتائج، خرجت الدراسة بمجموعة من التوصيات العملية، أبرزها: • التركيز على إبراز القطاع غير الربحي كوجه مدني وإنساني للمملكة في الحملات الرقمية الوطنية. • إنشاء منصة رقمية موحدة تجمع الجهات الحكومية والمركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي والمنظمات الأهلية لتوحيد الخطاب وتعظيم الأثر. • تطوير محتوى رقمي نوعي يتجاوز التغطية الإخبارية إلى سرد قصص الأثر والمبادرات الملهمة. • تعزيز الثقة بالمنصات الوطنية للتطوع والتبرع مثل «إحسان» ومنصة العمل التطوعي، وتحفيز المشاركة من خلال حملات إنسانية واقعية. واليوم وبعد هذا الملتقى الذي حمل الفكرة من مهدها إلى فضائها، أشعر أن هذه القضية لم تعد تخص محمد بن مفلح وحده، بل أصبحت قضية وطنية يؤمن بها الجميع. والقادم أجمل بإذن الله، فهذه القضية ستتحول إلى مبادرة ترى النور قريباً، مبادرة تسعى لترسيخ الدور الدبلوماسي للمجتمع المدني، وتعزيز الحضور السعودي الإنساني عالمياً. وأسعد صراحة بأن يكون هناك من يشاركني هذا الشغف ويؤمن بهذه الرؤية، من الباحثين والممارسين والمهتمين، ليكونوا جزءاً من هذا العمل الوطني الذي نزرع من خلاله بذور الصورة الحقيقية لوطنٍ عظيم يُحب أن يُروى كما هو: صادقاً، مؤثراً، ومُلهماً للعالم.