في زمنٍ أصبح فيه الإعلام سلاحًا لتوجيه العقول، لم يعد الخطر قادمًا من قناة منحازة أو صحيفة مأجورة، بل من مئات الحسابات الوهمية التي تملأ فضاء التواصل، تُجادل وتُثير الجدل دون توقف. وما يحدث اليوم ليس فوضى رقمية عابرة، بل صناعة منظمة تُعرف ب«مزارع الشرائح» (SIM Farms)، حيث تُستخدم مئات الهواتف وآلاف الشرائح لتشغيل حسابات مزيفة تُدار باحتراف لتشكيل الرأي العام وصناعة قضايا وهمية تُشغل الناس عن الواقع. ولعل ما كشفته الشرطة الأوروبية «يوروبول» مؤخرًا عن مزرعة واحدة في لاتفيا تدير نحو 49 مليون حساب وهمي، يوضح حجم الخطر الهائل لهذه الظاهرة. فكل حساب هناك يُسهم في تضخيم قضايا سطحية وإشعال نقاشات لا تنتهي، حتى يتحول الفضاء العام إلى ساحة فوضى رقمية تختلط فيها الحقائق بالأكاذيب، والصادق بالمصطنع. وهكذا، أصبحت الحرب الإعلامية الحديثة لا تُدار بالسلاح، بل بالتفاعل المصطنع والمحتوى الموجَّه الذي يخترق وعي المجتمعات دون أن تشعر. ومن هنا تتضح خطورة هذه الظاهرة، إذ تمتلك قدرة هائلة على اختراق وعي الناس بهدوء، وإعادة تشكيل المزاج العام عبر موجات ضخمة من التفاعل الوهمي تبدو وكأنها رأي الناس الطبيعي. ومع تكرار هذا المشهد، تتراجع الثقة بالمصادر الموثوقة، وتصبح مواقع التواصل الاجتماعي أداة لتوجيه الرأي العام بدلًا من التعبير عنه، وهو ما يجعل الإعلام الحقيقي في مواجهة مفتوحة مع الإعلام المصطنع. وفي هذا السياق، جاءت رؤية السعودية 2030 لتؤكد أن حماية الوعي لا تقل أهمية عن حماية الحدود، إذ وضعت الوعي الرقمي والأمن المعلوماتي ضمن ركائزها الأساسية. فالرؤية لا ترى الإعلام مجرد وسيلة نشر، بل منظومة وعي ومسؤولية وطنية. ولذلك، أُطلقت مبادرات تطوير الإعلام، والذكاء الاصطناعي، وحوكمة البيانات لتعزيز الثقة بالمحتوى السعودي وبناء إعلام قوي قادر على كشف التزييف ومواجهة الحملات الممنهجة بوعي واحتراف. وعليه، فإن معركة الوعي اليوم ليست بين الإعلام التقليدي والجديد، بل بين الإعلام الحقيقي والمزيف. فالإعلامي الحقيقي هو من يقرأ ما وراء الترند، ويفكك مصادره، ويفضح أدوات التلاعب بالرأي العام. أما المواطن الواعي، فهو الذي لا يمنح المنصات المجهولة شرعية الجدل، ويدرك أن الكلمة قد تشعل فتنة أو تُطفئها. وفي الختام، فإن حماية الوعي الجمعي مسؤولية مشتركة، تبدأ من الفرد ولا تنتهي عند المؤسسات. فكل تغريدة محسوبة، وكل وعيٍ نابع من إدراكٍ وطنيٍ هو خط دفاعٍ عن وطنٍ يضع الحقيقة في صميم رؤيته للمستقبل.