ترى هل خسرت البساطة المعركة أمام التعقيد والتمويه والطموح البشري؟ وهل ما زالت ممكنة في ضوء سعي الإنسان المستمر والمحموم للتموضع في مستوى معين من الوجاهة ماليا واجتماعيا وعلميا؟ إننا كلما تقدمنا في دروب الحياة وأوغلنا في تفاصيلها، كلما وجدنا أننا ذلك الكائن المسكين، الذي يمكن استدراجه بسهولة نحو المنعطفات الفارغة من كل محتوى أصيل، بمجرد أن تلوح فرصة المكاسب الذاتية، حتى لوكان الثمن خراب مالطا كما يقال، وحتى لا ينكشف عوار حالنا، نحاول أن نستعير من بيدر الحياة حفنة من سُتُر الألقاب، نغطي بها ما انكشف من ذلك الحال، ثم نواصل رحلة التمويه التي تُراكِم على أرواحنا الكثير من السُتُر حتى يصبح حراكنا وئيدا، لا روح فيه. إن إحدى المزالق التي تسلب منا ما تبقى من بساطة غوايةُ الألقاب «أستاذ، دكتور، سعادة، شيخ، معالي...» والتي لها سياقاتها المقبولة زمانا ومكانا، والتي لابد من استيعابها في تلك السياقات والتماهي معها اجتماعيا ورسميا بالقدر الذي يحقق من وجودها الهدف الذي نبتغي ونريد. لكن من غير المقبول أن نحمِلها معنا في كل مكان ووقت وكأننا نريد لها الالتصاق بجلودنا أحياء وأمواتا في قبورنا، إلى الدرجة التي أصبحت هي قبرا بدورها، وتراجعت أمام سطوتها الأسماء وكل السمات ببساطتها ودلالتها، حتى أضحت بدورها بلا معالم أو سمات، بل حالات مموهة يصعب استيعابها تحت عناوين البساطة. قد يكون السبب في ذلك، أنّ وعينا الذاتي، ومدركنا الذهني عن البساطة قد هوّن من شأنها حد إخراجها من المستساغ والمقبول، إلى الابتذال والعادي، وصولا للتنكر لمنهج وسيرة عطرة كان شعار صاحبها صلى الله عليه وسلم «إنما أنا رجل ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة». علينا أن نعمل على تحرير أنفسنا من كل ما هو مؤقت، أو متعلق زماني أو مكاني سواء كان لقبا، أو وضعا اجتماعيا أو رسميا، والعودة إلى ما يمثل قيمة ثابتة فينا كبشر، نعطي بلا تعقيد، ونحضر بلا تمويه وبلا مقدمات سوى الفعل الإيجابي الذي يضيف ويعيد ترتيب الأشياء، ويصمد أمام الفوضى، التي عنونت حياتنا الاجتماعية في جوانب كثيرة؛ حتى غدت البساطة تعيش غرابة في وسطها وبيئتها أمام جحافل التعقيد، ومتطلبات العبور القلق في حياتنا المعاصرة. من المؤكد أن البساطة في كنهها وعمقها تستطيع استيعاب كل حالات الإنسان في منصبه ورتبته العلمية، وموقعه الاجتماعي دون أن تصادر منه أي مكتسب تحصّل عليه أثناء سيره في حياته، وسيجدها تضيف إليه من المكاسب ما لا يمكنه الحصول عليه من غيرها، لأن البساطة هي خط الأساس الذي نقف عليه، وننطلق منه إلى إثراء الحياة بكل معنى حقيقي ينفع الناس، ويمكث في الأرض بعيدا عن كل زبد وجفاء لا نفع منه أو فيه.