«لا تقتل المتعة يا مسلم». عبارة قالها أحدهم بنبرةٍ تنبيهيةٍ صادقة، فصارت (ترِندًا) لأنها لامست واقعًا نعيشه كل يوم. نُسرع في كل شيءٍ بلا سبب. نأكل كأننا ننافس الوقت، ونصلّي وكأن الصلاة حاجزا ينبغي تجاوزه، ونسافر وكأن الطريق عبء لا متعة، فنُنجز كثيرًا... لكننا لا نحيا ما نُنجزه. استمع إلى يومك: «يالله بسرعة!» «تأخرنا!» «عجّلوا!» «لا توقف، بنضيع الوقت!» عبارات تتردّد في البيوت، وفي السيارات، وفي الرحلات، حتى في اللحظات التي خُلقت للسكينة. ذاك الأب المستعجل في نزهةٍ، والأم التي تطبخ بعجلةٍ وكأنها في سباق، والمسافر الذي يرفض التوقف عند مشهدٍ جميل، ومن يقرأ القرآن بسرعةٍ لينهيه لا ليتدبّره. بل حتى الصلاة، صارت عند بعضهم سباقًا للسلام، كأن الخشوع ترفٌ لا وقت له. لسنا دائمًا مشغولين، لكننا أسرى لعادةٍ خفيّةٍ يسمّيها علماء النفس «داء العجلة» (Hurry Sickness)، وهي حالة يعتاد فيها الدماغ الإيقاع السريع، فيُفرز هرمونات التنبيه باستمرار، فيطمئن فقط وهو يركض، ويتوتر إذا هدأ، فينتقل من مهمةٍ إلى أخرى بلا حضورٍ ولا متعة، كمن يركض فوق بساط الجمال دون أن يراه. وقد بيّنت دراسات في علم النفس السلوكي أن هذا النمط يرفع منسوب القلق، ويُضعف القدرة على الاستمتاع باللحظة، ويقلّل الشعور بالرضا والامتنان. فالمتعة الحقيقية لا تسكن النهايات، بل تتخلّق في التفاصيل. لذّة الشاعر في لحظة ولادة القصيدة، حين يتذوّق كل كلمةٍ كأنها اكتشاف، ولذّة الفنان في كل ضربة فرشاةٍ تضع روحه على اللوحة، لا تشبه متعة من قرأ القصيدة أو اشترى اللوحة بعد اكتمالها. وحتى في العبادة... من يعيش الركوع بخشوعٍ وتذوّقٍ يذوق طمأنينةً لا يعرفها من تعجّل ليُسلّم. وهكذا نفقد لذّة التفاصيل: نكهة الطعام، عبير القهوة، سكينة الصلاة، وجمال الطريق الذي لا نلتفت إليه. نأكل ولا نتذوّق، نصلي ولا نخشع، نعمل ولا نستمتع، فنعيش كما تؤدي الآلة عملها... بلا وعيٍ ولا امتنان. لكنّ الحلّ بسيط: أن نحضر، ونتأنّى، ونعي ما نفعل. أن نشرب قهوتنا ببطءٍ، ونجعل صلاتنا لحظة وعيٍ لا أداءٍ، ونتلذّذ بطعامنا، نمضغ كل لقمةٍ كأنها الوحيدة، ولا نُشرك الهاتف في مائدتنا، ونتأمل الطريق بدل استعجال الوصول. ابدأ من اليوم بخطواتٍ بسيطةٍ تغيّر الكثير: تأمّل نعمةً كل يوم واشكر الله عليها، اقرأ الفاتحة بتأنٍّ، تمهّل في الطريق، وتلذّذ بطعامك دون استعجال، واسمح لنفسك أن تهدأ... لتعيش، فالله لم يخلق النعم لتُنجز، بل لتُعاش.