«ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطن»، حكمة نبوية تقرأ اليوم في مرآة القضية الأكبر: فقد وهدر الغذاء. في الزمن الذي تصاغ فيه السياسات الكبرى وتقاس الإنجازات بالأرقام، سجلت المملكة خطوة نوعية تستحق الوقوف عندها. أعلنت الهيئة العامة للأمن الغذائي والبرنامج الوطني «لتدوم» عن نتائج القياس الثاني لمؤشر الفقد والهدر الغذائي، مظهرة انخفاضًا بنسبة 16% مقارنة بخط الأساس لعام 2019، مع تراجع نسبة الفقد إلى 12.1% ونسبة الهدر إلى 15.8% — إنجاز يعكس جهداً وطنياً حشد أكثر من 40 جهة و1000 مشرف وباحث ميداني جمعوا أكثر من 65 ألف عينة من 46 مدينة ومحافظة. هذا التقدم لم يَبقَ محليًا فحسب، بل حمل المملكة إلى مراتب أفضل على مستوى العالم: تحسن ترتيبها داخل مجموعة العشرين من المرتبة السابعة عشرة إلى الثالثة عشرة، وعلى الصعيد العربي قفزت من الثالثة عشرة إلى الثانية. مثل هذه القفزات تؤكد أن السياسات المتكاملة والتعاون بين القطاعين العام والخاص قادران على تحويل الأرقام إلى أثر واقعي. والسياق الدولي يذكرنا بحجم التحدي: تشير تقديرات دولية متخصصة إلى أن نحو 931 مليون طن من الطعام يهدر سنويًا على مستوى العالم، أي ما يقارب 121 كجم للفرد في المتوسط، وما يقارب 17% من الإنتاج العالمي في مرحلة الاستهلاك. هذا الهدر يولد عبئًا بيئيًا واقتصاديًا هائلًا، ويسهم بنسبة 8 – 10% من انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية المرتبطة بالطعام غير المستهلك. من جهة أخرى، يبين تقرير أممي آخر أن نحو 14% من الغذاء المنتج يفقد في المراحل بعد الحصاد وقبل مستوى البيع بالتجزئة، وهو ما يجعل التدخلات في سلسلة التوريد مهمةً بقدر الحاجة لضبط سلوك المستهلك. أما منطقتنا العربية فتنطوي على تحديات خاصة: دراسات إقليمية تشير إلى معدلات استهلاك وهدر مرتفعة في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بمعدلات قد تقترب أو تتخطى 200 – 250 كجم للفرد سنويًا في بعض التقديرات— وهذا يضع العبء الأكبر على سياسات التثقيف السلوكي، والبنى التحتية للتخزين، وسلاسل التوريد. اقتصاديًا، الهدر غذائيًا يعني موارد مهدرة: تقديرات سابقة ربطت خسائر الطعام العالمية بمئات المليارات من الدولارات سنويًا، وهي قيمة يمكن أن تتحول إلى استثمارات في تحسين الإنتاجية، وسلاسل التبريد، والابتكار في الأغذية المستدامة لو وظفت بحكمة فماذا يعني هذا للمملكة؟ أولاً، أن النجاحات المسجلة ليست غاية بل بداية: منصة «لتدوم» واتفاقيات التعاون وتكريم الشركاء (106 جهات) كلها بنى تسهم في توسيع نطاق الحلول، من التقنيات اللوجستية إلى سياسات الحوافز والوعي المجتمعي. ثانيًا، إن الربط بين الأرقام والرؤية الاقتصادية أمر حتمي؛ فالحد من الهدر يحرر موارد يمكن توجيهها لتعزيز الأمن الغذائي المحلي، تقليل الاعتماد على الاستيراد في سلع معينة، ودعم أفكار الأعمال الصغيرة والمتوسطة في قطاع الأغذية والتدوير. خاتمة موجزة: الهدر غذائيا ليس مجرد رقم يحزن البيانات، بل قرار أخلاقي واقتصادي وسياسي. كما تقول الحكمة: «النعمة تحفظ بالشكر والعمل». على المواطن والمؤسسات والدولة أن يتشاركوا مسؤولية تحويل هذا الإنجاز الأول إلى عادة مؤسسية وثقافة عامة. إن كل لقمة تحفظ اليوم، قد تشبع غدًا حلمًا وطنيًا في الاكتفاء والاستدامة.