حين نسمع كلمة «التوحّد»، يقفز إلى أذهان كثيرين مشهد طفل صامت، غارق في عزلته، لا يتواصل مع العالم. الصورة مؤلمة، لكنها ناقصة. الحقيقة أن التوحّد ليس نهاية المسار، بل بداية لطريق يحتاج فقط إلى عين ترى الإمكانات لا العوائق، وإلى تدخل مبكر يفتح الأبواب قبل أن يغلق العمر نوافذه. التوحّد ليس مرضًا عضويًا نبحث له عن دواء، وليس لعنة أبدية تفرض العجز. هو اضطراب نمائي، أي أنه يتطور مع نمو الطفل، ويتشكل بحسب البيئة التي يُوضع فيها. يمكن أن يتفاقم إذا تُرك بلا رعاية، ويمكن أن يتحول إلى قصة نجاح إذا احتُضن الطفل منذ بداياته. هنا تكمن أهمية الفكرة الجوهرية: التوحّد ليس ثابتًا، بل مرن، قابل للتحسن بشكل كبير. التجارب العلمية والسريرية أثبتت أن التدخل المبكر - سواء عبر العلاج السلوكي التطبيقي، جلسات النطق، أو برامج الدمج التعليمي- يُحدث فرقًا جوهريًا. الفرق بين طفل حُكم عليه بالعزلة وطفل يجد مكانه في صفوف المدرسة، ويلعب مع أقرانه، ويستطيع لاحقًا أن يعمل ويستقل بحياته. في كثير من الحالات، تبدأ القصة من مركز صحي صغير، ومن طبيب أسرة يلتقط ملاحظة مبكرة: تأخر في النطق، غياب التواصل البصري، سلوكيات متكررة وغير مألوفة. هذه الملاحظة البسيطة قد تنقذ سنوات من المعاناة، لأنها تدفع الأسرة إلى التشخيص المبكر والتأهيل. الرعاية الأولية هنا ليست مجرد خدمة طبية، بل حجر الأساس في مسار الطفل. لو تجاهلنا هذه المرحلة، نخسر وقتًا لا يُعوّض. أما إذا وعينا، نكسب فرصة ذهبية لفتح الطريق أمام التدخلات التي تغيّر مسار الحياة. كل ساعة تُصرف على التدخل المبكر هي استثمار في المستقبل. ليس فقط من الناحية الاقتصادية -حيث يقل العبء المالي على الدولة والأسرة لاحقًا- بل من الناحية الإنسانية أولًا. الدراسات تؤكد أن الأطفال الذين يخضعون لبرامج مبكرة ومكثفة يحققون تقدمًا ملحوظًا في اللغة، في التواصل الاجتماعي، وفي القدرة على التكيّف مع الحياة اليومية. نحن هنا لا نتحدث عن أحلام وردية، بل عن وقائع ملموسة. هناك آلاف القصص حول العالم لأطفال شُخّصوا بالتوحّد في سن الثالثة، تلقوا التدخل المبكر، وأصبحوا لاحقًا طلابًا جامعيين ومهنيين ناجحين. بعضهم دخل عالم التقنية والفنون، وبعضهم أسس عائلات، وأصبحوا آباء وأمهات. المجتمع بحاجة أن يُعيد تعريف كلمة «طبيعي». نعم، قد يبقى للمتوحد بعض السمات الخاصة به، لكنه قادر على أن يعيش حياة قريبة جدًا من أقرانه إذا حصل على الدعم المناسب. الاختلافات الفردية لا تُلغي إنسانيته، بل تضيف تنوعًا إلى نسيج المجتمع. القضية ليست في الطفل وحده، بل في المجتمع الذي ينظر إليه. إذا تعاملنا مع التوحّد كحكم بالإقصاء، سنصنع العزلة بأيدينا. أما إذا رأينا فيه إمكانات تنتظر من يُفعلها، سنجد أن المتوحد ليس غريبًا عنا، بل فرد قادر على أن يضيء مساحته الخاصة في هذا العالم. التوحّد درس لنا جميعًا: أن نقيس قيمة الإنسان بقدراته وإمكاناته، لا باختلافاته. أن ندرك أن التدخل المبكر ليس رفاهية، بل ضرورة إنسانية. أن نؤمن أن الرعاية الأولية ليست عيادة صغيرة في حيّ جانبي، بل البوابة الكبرى لحياة كاملة يمكن أن تُبنى. في النهاية، التوحّد ليس نهاية الطريق... بل بداية مسار مختلف، يُكتب بالحوار، بالصبر، وبالإيمان العميق أن كل طفل، أيًّا كان تشخيصه، قادر على أن يكون إنسانًا فاعلًا في الحياة.