في ظل تصاعد الصراعات وتفاقم الأزمات الإنسانية، تبرز غزة والسودان وهايتي كنماذج صارخة لأزمات منسية تتجاوز حدودها المحلية لتتحول إلى تهديدات عالمية. فالمجاعة، النزوح الجماعي، انتشار الأمراض، وتنامي نفوذ الجماعات المسلحة، جميعها مؤشرات على انهيار داخلي يحمل انعكاسات مباشرة على الأمن الإقليمي والمصالح الدولية. وتجاهل هذه الأزمات لا يعني ترك ملايين المدنيين في مواجهة مصير قاتم فحسب، بل يفتح الباب أمام موجات هجرة جديدة وأوبئة عابرة للحدود، ويهيئ بيئة خصبة للتطرف وعدم الاستقرار الذي قد يمتد أثره إلى ما وراء حدود هذه الدول. غزة على حافة الانهيار وتشهد غزة أزمة إنسانية حادة تهدد حياة مئات الآلاف وتضع المجتمع الدولي أمام مسؤولية عاجلة. تشير التقديرات الأخيرة إلى أن ظروف المجاعة قد تأكدت في أجزاء من القطاع، فيما نزح أكثر من 1.9 مليون شخص داخل وخارج مناطقهم، وترك الصراع 1.7 مليون طفل بحاجة ماسة إلى مساعدات إنسانية. والبنية التحتية الصحية مدمرة والإمدادات الطبية والغذائية مقطوعة في العديد من المناطق، ما يفاقم مخاطر انتشار الأمراض ويمثل تهديدًا مباشرًا لصحة السكان الأكثر ضعفًا. كما أن تعطل المرافق الأساسية وتقييد دخول المساعدات يزيدان من وطأة الأزمة. وتواجه المنظمات الإنسانية عقبات لوجستية وأمنية تحول دون إيصال الإغاثة بكفاءة. وفي ظل استنزاف الموارد الدولية وتشتت الاهتمام العالمي، تتزايد الدعوات إلى تدخل منسق يضمن فتح ممرات آمنة لإدخال الغذاء والدواء وحماية المدنيين، مع التركيز على حماية الأطفال والنساء والمرضى. السودان بين الحرب والمجاعة ومنذ اندلاع الحرب الأهلية قبل نحو ثلاث سنوات، خلف الصراع في السودان أثراً إنسانياً وتدميرياً هائلاً. قُتل أكثر من 150 ألف شخص، ونزح أكثر من 11 مليون سوداني، بينهم ملايين داخل البلاد وخارجها، ما شكل ضغطًا كبيرًا على دول الجوار واستنزف مواردها. يشهد جزء واسع من البلاد مجاعة مستمرة منذ أكثر من عام، فيما يحتاج أكثر من 15 مليون طفل إلى مساعدات إنسانية فورية، ومن المتوقع أن يعاني 3.2 ملايين طفل دون سن الخامسة من سوء تغذية حاد خلال الاثني عشر شهرا القادمة. وتدهورت البنية التحتية الصحية فتفشت أمراض كانت تُحتوى سابقًا مثل الكوليرا والحصبة والملاريا. وفقط منذ بداية العام سُجلت عشرات الآلاف من حالات الاشتباه بالكوليرا ومئات الوفيات المرتبطة بها. كما تستغل التنظيمات المتطرفة حالة الفراغ الأمني لتوسيع نفوذها، ما يزيد من مخاطرة تحويل الأزمة المحلية إلى تهديد إقليمي ينذر بموجات هجرة إضافية وزعزعة استقرار دول الجوار. هايتي: انهيار أمني وتجنيد الأطفال وتشهد هايتي انهيارا أمنيا متواصلا منذ اغتيال رئيسها في 2021، إذ انقسمت الدولة بين جماعات مسلحة تهيمن على مساحات واسعة وتفرض الأمر الواقع بعنف. أدى العنف إلى نزوح أكثر من 1.2 مليون شخص داخل البلاد، وتزايد استقطاب الأطفال نحو الجماعات المسلحة بارتفاع ملحوظ، حيث سجلت زيادة بنحو 70 في المئة في تجنيد الأطفال عام 2024. كما يعاني نحو 2.85 مليون طفل من انعدام حاد في الأمن الغذائي، وتتصاعد موجات تفشي الأمراض مع ضعف الخدمات الصحية، ما يعكس فشلاً في حماية الفئات الأضعف وتفاقماً للأزمة الإنسانية. مخاطر على المصالح الدولية وتجمع هذه الأزمات الثلاث سمات مشتركة: هشاشة الدولة، انهيار الخدمات الأساسية، واستغلال الفوضى من قبل فاعلين مسلحين. النتيجة ليست مجتمعات ممزقة فحسب، بل تهديدات عبر الحدود تشمل موجات هجرة قسرية، انتشار أوبئة، وشبكات إجرامية وعنيفة تتجاوز سيطرة الحكومات المحلية. تواجه الدول الكبرى، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة وحلفاؤها، خيارًا عمليًا؛ إما تكثيف الانخراط لتخفيف المعاناة واحتواء المخاطر أو الانسحاب ماديا وسياسيا مع ما يترتب على ذلك من عواقب إنسانية واستراتيجية قد تطول المصالح الدولية. نداء للعمل: تدابير عاجلة ومتكاملة والاستجابة الفعالة تتطلب مزيجًا من الجهود الإنسانية والدبلوماسية والأمنية. أولًا، فتح ممرات آمنة لإدخال المساعدات والامتثال للقانون الإنساني الدولي. ثانيًا، دعم برامج التغذية والصحة الطارئة خاصة للأطفال والحوامل وكبار السن. ثالثًا، تعزيز التنسيق الإقليمي والدولي لمعالجة جذور النزاع ووقف تمويل الجماعات المسلحة. رابعًا، دعم الدول المجاورة المتأثرة بموجات اللاجئين لتفادي انهيار أوسع وبناء قدراتها لاستيعاب الضغوط. ثمن أكبر وتجاهل هذه الأزمات سيكلف العالم ثمنا أكبر على المستويين الإنساني والاستراتيجي. إنقاذ الأرواح والحد من تفاقم العنف يتطلب إرادة سياسية وموارد ملموسة الآن. فالأمن العالمي لا يُبنى على إهمال محطات المعاناة، بل بالاستثمار الفوري في حماية المدنيين واستقرار المناطق المتأزمة. ويجب ترجمة الالتزامات إلى إجراءات ملموسة. ماذا يمكن أن تفعل الولاياتالمتحدة وحلفاؤها؟ اتخاذ خطوات عملية محددة: تخصيص تمويل طارئ لبرامج التغذية واللقاحات وإعادة تأهيل المستشفيات الميدانية إطلاق مبادرات لتطهير المناطق من الألغام ودعم برامج حماية الأطفال لمنع تجنيدهم وإعادة تأهيل المجندين قسراً. تشجيع المسارات الدبلوماسية التي تضغط على الأطراف المتحاربة لوقف إطلاق النار جزئياً ومنح ممرات إنسانية فرض عقوبات مستهدفة على من يعيق وصول المساعدة. وفي المدى المتوسط، يتطلب الأمر خطة لإعادة الإعمار وبناء القدرات المحلية لتعزيز حكم القانون وتحسين البنية التحتية والخدمات الأساسية المحلية. الوقت محدود؛ العمل الفوري واجب الآن.