ذكرى مجيدة يسترجعها السعوديون هذه الأيام ويعيشونها بكل جوارحهم وهم يستعيدون ذكرى يومهم الوطني الذي أعلنوا فيه للعالم ميلاد دولة فتية لم تلبث أن انطلقت بسرعة الضوء نحو مراقي المجد والعزة وأصبحت في وقت وجيز إحدى أهم دول المنطقة والمحطة الرئيسة التي لا يمكن تجاوزها بأي حال عند صياغة أي قرار يخص العالمين العربي والإسلامي. ونقترب اليوم من المئوية الأولى لتأسيس المملكة، فتتضاعف قيمة هذه المناسبة التاريخية باعتبارها ملهمة للأجيال وموقدًا لشعلة العمل المتجدد. ففي مثل هذا اليوم قبل 95 عاما سطّر- المغفور له بإذن الله - الملك عبدالعزيز آل سعود ورجاله الميامين ملحمة نادرة لا يشهد مثلها الزمان كثيرا، فقد تحدوا الصعاب وقهروا المستحيل لتوحيد جزيرة العرب في دولة واحدة هي المملكة العربية السعودية بحدودها المعروفة اليوم. وقد عبّر الملك المؤسس (رحمه الله) عن مهمته بقوله: "أنا رجل عملت لإعلاء كلمة التوحيد"، فجعلها دستورًا ودربًا، وبهذا القول تتجلى عظمة البدايات وصدق النوايا. لم تكن المهمة سهلة أو ميسورة، فقد كانت المخاطر تحيط بأولئك الرجال الأفذاذ الذين لم يرتضوا لأهلهم وعشيرتهم أن يظلوا في حالة التشرذم والفرقة التي كانوا يعيشونها، وأبت أنفسهم إلا أن يجمعوا شملهم في دولة موحّدة، وأن يقضوا على حالة الفوضى والانفلات الأمني الذي كان سمة غالبة في ذلك الوقت. فاتحدت إرادتهم واجتمعت عزيمتهم، لذلك كان لا بد أن يحقّقوا النجاح الذي يستحقونه. واستطاعوا تحقيق هدفهم المنشود وانتصروا على أعدائهم، وجمعوا صفوفهم على كلمة التوحيد التي اتخذوها دستورًا لبلادهم. بعد إعلان قيام الدولة بدأت مرحلة أخرى لا تقل صعوبة عن سابقتها وهي إرساء دعائم الدولة الوليدة على أسس من المبادئ التي تضمن استمراريتها، فقد حرص الملك المؤسس على بسط سيادة القانون وإنشاء منظومة تشريعية تحفظ الحقوق وتقيم العدالة وتحقق المساواة بين جميع المواطنين، وكل ذلك لأنه كان يدرك بما وهبه الله من حكمة وبصيرة أن العدل هو أساس الملك وأولى لبنات التقدم والتطور. لذلك تفرّغ الجميع للإعمار والبناء وبسط الأمن والاستقرار بعد أن رفع الملك عبدالعزيز شعار الحق والعدل والمساواة بين أبناء البلاد، دون تغليب لأي اعتبارات مناطقية أو عرقية أو مذهبية، فتبارى المخلصون في خدمة وطنهم، وأعلنوا الولاء التام والطاعة الكاملة لولاة أمرهم. وكما كانت البداية معجزة في التوحيد والبناء، فإن الحاضر اليوم مع القيادة الرشيدة معجزة أخرى في التنمية والتحديث. ومما يزيد من عظمة هذه المناسبة التاريخية أنها تمر علينا هذا العام ونحن نعيش في عهد زاهر تحت قيادة مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وساعده الأيمن وولي عهده الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله - حيث تقطع المملكة في كل يوم شوطًا جديدًا في طريقها نحو النماء والتطور، وتحقق مكتسبات وإنجازات متواصلة وضعتها في مقدمة دول العالم من حيث النمو الاقتصادي والازدهار المجتمعي. وكانت أبرز عوامل النجاح التي شهدتها بلادنا خلال السنوات الماضية رؤية السعودية 2030 التي كانت فأل خير على البلاد، حيث شملت خلالها يد الإصلاح والتجديد والتطوير كل مرافق الدولة، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، فتحولت الرؤية من مجرد خطة طموحة إلى واقع ملموس أعاد تشكيل صورة المملكة في أذهان العالم. بعد أن تكاتفت الكوادر الوطنية المؤهلة لتضع رؤيتها لواقع السعودية وما ينبغي أن تكون عليه. ففي المجال الاقتصادي يجري تنفيذ عدد من المشاريع غير المسبوقة التي جعلت كبريات الشركات العالمية تتدافع للمشاركة في إنجازها وتجسيدها على أرض الواقع لتحقيق الهدف الرئيس وهو تنويع مصادر الدخل وعدم الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل. أما على الجانب الاجتماعي فقد شهد هذا المسار عددًا من الإصلاحات التي هدفت لمواكبة العالم من حولنا، ومن أبرز ما اشتملت عليه تمكين المرأة وإزالة العوائق التي كانت تحول دون مشاركتها في مسيرة التنمية، حتى باتت اليوم شريكًا كاملاً في القرار وصناعة المستقبل. إضافة إلى رفع قدرات الشباب وتأهيلهم بما يساعدهم على تحمّل مسؤولياتهم باعتبارهم نصف الحاضر وكل المستقبل، بل محرك الرؤية الأساسي ووقودها المستمر. ولا ننسى كذلك الطفرة التشريعية الهائلة التي تعيشها المملكة لتحديث منظومتها القانونية واستكمال كامل الجوانب التي تحتاج إلى تحديث ومراجعة، بما جعل المملكة إحدى أكثر دول العالم توافقا في أنظمتها التشريعية مع المنظومة الدولية. ومن أبرز هذه الخطوات إقرار نظام الأحوال الشخصية ونظام الشركات الجديد ونظام الإثبات، وهي تشريعات وضعت المملكة في طليعة دول المنطقة من حيث التحديث القانوني. وكذلك الحرب على مكامن الفساد المالي والإداري التي قادت السعودية لمرتبة متقدمة في مؤشرات الشفافية والنزاهة. إلى غير ذلك من الإنجازات التي لا يمكن بطبيعة الحال الإحاطة بها في هذه المساحة. ولأن مثل هذه الإنجازات لم يكن لها أن تتحقق لولا فضل الله أولا، ثم هذه القيادة الحكيمة التي تعمل ليل نهار لأجل ترقية حياة شعبها وزيادة رفاهيته، فإن الواجب يستوجب منا ألا نكتفي بإظهار مشاعر الفرح والسرور. وعلينا المسارعة إلى التكاتف مع ولاة الأمر وتحويل معاني الولاء والانتماء إلى تصرفات إيجابية في حياتنا اليومية، وبذل المزيد من الجهود لأجل ترقية واقعنا وتحسين معيشتنا وضمان رفاهية أجيالنا المقبلة. وأن يشعر كل واحد منا أن تحقيق مصلحة هذا الوطن هو مسؤوليته الشخصية قبل غيره، فهذا الوطن العظيم يستحق منا التضحية لأجله بكل ما نملك. حفظ الله وطننا وقيادتنا، وأدام عز هذه البلاد قبلةً للمسلمين وموئلًا للتنمية والسلام.