وإذا تساءلنا: لماذا أحرق أبو حيان كتبه؟ فمن حسن حظنا أنه حين أحرق كتبه، لم يحرق إلا ما تأخر زمنه منها، أي ما كتبه في العشرين عاما الأخيرة من عمره. ... ويحاكم أبو حيان نفسه في آخر أيامه سائلًا إياها لم آثرت الكتابة على غيرها من الحرف، ويكون جوابه دون مواربة أنه كتب كتبه طلبًا للشهرة بين الناس، وليكون له عندهم جاه ومال. وذلك مطلب زائف، وإن كان لم يتحقق. ثم يميل إلى قضية (الخلود الأدبي) بلغتنا نحن. فيرى غير موارب أن الأجيال القادمة لن تعبأ به، خاصة إذا قاسها على الأجيال التي عاصرها وعاصرته: «وشق علي أن أدعها (أي كتبه) لقوم يتلاعبون بها، ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها. فإن قلت لم تسمهم بسوء الظن، فجوابي أن عياني منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات، وكيف أتركها لأناس جاورتهم فما صح لي من أحدهم وداد، ولأظهر لي من إنسان منهم حفاظ، ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق. وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم». ويكشف لنا أبو حيان في هذه الرسالة عن طائفة سبقته من الأدباء والمفكرين الذين أدركوا إخفاق سعيهم نحو المعرفة، وضنوا بثمرات قرائحهم أن تلقى أمام دهماء الفكر، تعبث بها. وتتشدق بما فيها دون فهم أو خلوص نية، فأحرقوا كتبهم أو غسلوها بالماء أو دفنوها في باطن الأرض قبل أن يفارقوا الحياة ! فمن هؤلاء أبو عمرو بن العلاء الذي دفن كتبه في باطن الأرض فلم يوجد لها أثر. ومنهم داود الطائي الذي كان يقال له تاج الأمة. إذ طرح كتبه في البحر. وقال يناجيها: نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول. وبلاء وخمول. فكان داود يكتب كتبه بحثا عن ذات نفسه، وطلبا لخلاصها من حيرتها، فلما استقرت وأصابها اليقين، لم تصبح لهذه الكتب جدوى. ومن هؤلاء المتخلصين من ذنب الكتابة قبل أن يفارقوا الدنيا أبو سليمان الداراني الذي جمع كتبه في فرن وأحرقها، ثم قال: «والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك». ومنهم أيضا سفيان الثوري المحدث الفقيه. وأبو سعيد السيرافي اللغوي النحوي الذي يسميه أبو حيان «سيد العلماء». وإذا تساءلنا: لماذا أحرق أبو حيان كتبه؟ فمن حسن حظنا أنه حين أحرق كتبه، لم يحرق - إذا كان قد فعل حتما - إلا ما تأخر زمنه منها، أي ما كتبه في العشرين عاما الأخيرة من عمره. أما كتبه الأخرى فلقد حفظها الرواة وتناقلتها من بعدهم الأجيال، حتى بقيت صفحاتها لتجيب لنا عن سؤال نلقيه ونحاول أن نجيب عنه. 1978* * شاعر وكاتب مصري «1931 - 1981»