في كل عام، وبين تقلبات الفصول، يأتينا الخريف كرسالة هادئة من الطبيعة؛ يحثنا على التريث، والتأمل، والتمتع باللحظة. إنه الفصل الذي يجمع بين وداع الصيف بحرارته اللاهبة، واستقبال الشتاء ببرودته القارسة. فصل يوشح الأرض بألوانه الذهبية، ويزرع في النفوس هدوءًا وصفاءً، كأن الطبيعة تمنحنا فرصة لإعادة ترتيب أنفسنا قبل أن تبدأ دورة الحياة من جديد. فبعد معاناتنا حرارة الصيف لبضعة أشهر في بلدنا الصحراوي، نستبشر برحيله عنا، وقبل قدوم الشتاء ببرده القارس، يحلّ علينا فصل الخريف كضيفٍ رصين هادئ، مرحَّب به من الجميع، يمدّ الطبيعة بفسحة من الاعتدال والسكينة. هو اللحظة التي تتوقف فيها الشمس عن لهيبها، وتتراجع تدريجيًا، ليصبح النهار لطيفًا، والجو معتدلًا، والنسيم يمرّ برقة بين الأغصان، يحمل معه وعدًا بالصفاء وراحة للنفس. الأشجار تبدأ بتنفيض أثوابها القديمة، الأوراق صفراء كالذهب، تتساقط ببطء، تفرش الأرض بسحرها، فتتحول المساحات الخضراء إلى بساط متدرّج بين الأصفر والبرتقالي والحنطي، تتلألأ تحت أشعة الشمس الخجولة، كأنها مصابيح صغيرة تنير الأرض. الأغصان تصبح خالية، لكنها ليست عارية من الحياة، بل تعلن استعدادها للولادة الجديدة في الربيع القادم، وكأنها تجهّز مسرحًا للمستقبل، تفرش الأرض بألوانها، لتخبرنا أن كل نهاية تحمل بداية جديدة وجميلة. وقد تغنّى الشعراء بجمال هذا الفصل، إذ قال الشريف الطوسي: حلَّ الخريفُ على الأغصانِ وانتثرتْ أوراقُهُ غيرَ ما يبقى على الحِقَبِ كانتْ غلائلُها خُضْرًا وقد صُبِغَتْ بصفرةٍ مثل لونِ الوَرْسِ والذَّهَبِ واستطردَ القيظُ إذ ولَّت عساكره واستبردَ الظلُّ فاقدحْ جمرةَ العنبِ واغنمْ بها العيشَ في تشرينَ منتهزًا فالقيظُ في رحلةٍ والقرُّ في الطلبِ وقال عز الدين المهلبي الأزدي: للّه فصل الخريف المستلذّ به بَردُ الهواء لقد أبدى لنا عجبا أهدى إلى الأرض من أوراقه ذهبًا والأرض من شأنها أن تهدي الذهبا في فصل الخريف الرياح تتحرك بين الأغصان، ترفع الأوراق ثم تهبط بها برفق، فتتراقص مع بعضها كما لو كانت تتمايل على نغم موسيقى خفية؛ موسيقى لا يسمعها إلا من يفتح قلبه للطبيعة. الأرض المبللة بقطرات المطر الأولى تفوح منها رائحة مختلطة من تزاوج الماء بالتربة، رائحة تشبه المسك، مألوفة لدى أهل البادية والصحاري، مألوفة لدى أهل الجبال والأصدار، مألوفة لدى أهل السهول والأغوار. هي رائحة تشدّ الحواس، تلامس الذكريات، وتملأ النفس بالهدوء والبهجة. زخات المطر تتساقط، تجري في الجداول بشلالات ممتعة للنظر، مريحة للسمع، مسلية للنفس، تبعث الراحة والسعادة؛ فتخرخر المياه بخفة على الصخور، وتتراقص على التربة، تحمل معها صوت الطبيعة المطمئن، بينما الطيور تتهيأ للطيران، وتبدأ بالحركة البطيئة استعدادًا للهجرة، وكأن الخريف يعلّمنا درس الصبر والتجدّد. وفي الصحاري، يُنتظر «الوسم» المطر الذي يأتي ليغذي الأرض، فتخرج النباتات العشبية الرعوية، وتعود الحياة للنبات، والسعادة والمتعة للإنسان، والغذاء المفيد للحيوان. الرياح تحرّك كل شيء، الخضرة تبدو متجددة، الألوان تتغير باستمرار، والأرض كأنها تتحدث، تبوح بأسرارها، تعلّمنا قيمة كل لحظة، وجمال الانسجام بين كل عناصر الطبيعة. النظر إلى الأرض المغطاة بأوراق الخريف، والمشي بين الأشجار، يجعلان الروح تهدأ، ويستمتع القلب بالصفرة الذهبية التي تبدو كل يوم مختلفة، كل لحظة فيها جديدة، كأن الطبيعة تصنع عروضًا صغيرة تتغير باستمرار، لا تكرر نفسها. كل انعكاس للشمس على الأوراق، كل خرير للمياه بين الصخور، كل خفقة نسيم، وكل قطرات مطر، هي سيمفونية صامتة تهز الروح وتوقظ الحواس. الخريف ليس مجرد فصل من فصول السنة؛ إنه فصل للروح، فصل للتأمل، فصل للمشي الطويل والمشاهدة الدقيقة، فصل للشعور باللحظة، فصل للسلام الداخلي. هو الفصل الذي يربطنا بالطبيعة، ويعلّمنا أن الحياة مزيج من الصفرة والذهب، من النهاية والبداية، من الزوال والتجدّد. في هذا الفصل، كل شيء له جماله: الأوراق، المطر، التربة، الرياح، وحتى الإنسان نفسه يشعر بالراحة، بالسكينة، بالبهجة، وكأن كل حاسة من حواسنا تتفاعل مع الطبيعة في انسجام كامل. هو خريف الأرض ومتعة النظر والروح معًا، فصل يترك أثره في النفس، ويعلّمنا معنى الجمال الحقيقي في كل لحظة: رونقها، وهدوءها، وقوتها الخفية. فصل الخريف فصل جميل ننتظره ببالغ الصبر، وقد أخطأ المشبّهون نهاية العمر بفصل الخريف حين يقولون «خريف العمر»، أي نهايته، فخريف الأشجار ليس النهاية، بل هو الجمال والتجديد؛ إذ تنفض لباسها القديم لتتجهز للباسها الجديد بأجمل حُلّة، فالخريف تجديدٌ لا نهاية. ونحن قد نحتاج بين الحين والآخر لأن نكون مثل فصل الخريف، نترك كل ما يؤلمنا ويثقل كواهلنا يتساقط من داخلنا، لنفسح المجال لربيع قادم بجماله وصفائه.