في إنجاز جديد يضاف إلى سلسلة النجاحات المتلاحقة للدبلوماسية السعودية، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الجمعة الماضي بأغلبية ساحقة «إعلان نيويورك» الذي يرسم خطوات ملموسة ومحددة زمنيًا ولا رجعة فيها نحو حل الدولتين، تمهيدًا للمؤتمر الحاسم المزمع عقده يوم الاثنين المقبل، قبيل اجتماعات الجمعية العامة يومي 23 و24 سبتمبر في نيويورك. لقد تجاوزت دول العالم مرحلة المجاملة السياسية، وأعلنت بوضوح انحيازها للمقترح السعودي الفرنسي، حيث حظي مشروع القرار بتأييد كاسح بلغ 142 دولة، من بينها الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن (باستثناء الولاياتالمتحدة)، مقابل اعتراض عشر دول فقط. هذه النتيجة المدوية تعكس حجم الثقل السياسي للمملكة، والموثوقية العالية التي تتمتع بها في دوائر صناعة القرار الدولي. ويمثّل هذا الانتصار الدبلوماسي صفعة جديدة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وإدانة صريحة لانتهاكاتها اليومية بحق المدنيين الفلسطينيين العزّل، الذين يُحاصرون بالجوع وتُلاحقهم آلة العدوان. وفي الوقت الذي اختارت فيه بعض الدول الاكتفاء بالمظاهرات والمسيرات التي كثيرًا ما تنتهي بالفوضى دون أثر ملموس، فإن المملكة تبنّت نهجًا إيجابيًا هادئًا، يقوم على التحركات الدبلوماسية والخطوات السياسية العملية، وهو ما أثبت فعاليته ونجاعته. منذ سبتمبر الماضي، بادرت المملكة بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي والنرويج إلى إنشاء التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين، الذي شكّل علامة فارقة في مسيرة إعادة الحق الفلسطيني. هذا التحالف استطاع حشد دعم عالمي متنامٍ لإنهاء المعاناة الفلسطينية وتمكين الشعب الفلسطيني من استعادة حقوقه المشروعة، بما يضمن سلامًا عادلاً ودائمًا في الشرق الأوسط. وتواصلت الجهود في يوليو الماضي بعقد المؤتمر الدولي لتسوية قضية فلسطين بالوسائل السلمية في باريس، والذي مثّل إجماعًا عالميًا على اعتماد المرجعيات الدولية لحل القضية. ومن أبرز مخرجاته إعلان فرنسا عزمها الاعتراف بدولة فلسطين خلال سبتمبر الجاري، وهو ما شكّل زلزالًا سياسيًا أربك إسرائيل، خصوصًا مع إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون أن عددًا من الدول الأوروبية ستسير في الاتجاه ذاته. اليوم، وبعد أقل من عام على تأسيس التحالف الدولي، تتسارع وتيرة الاعترافات بدولة فلسطين، حيث كشفت عدة دول نيتها الاعتراف قريبًا، منها: كندا، بريطانيا، أستراليا، أندورا، لوكسمبورج، مالطا، نيوزيلندا، البرتغال، وسان مارينو، مع توقعات بمفاجآت أخرى في الأيام المقبلة. هذا النجاح لم يكن وليد صدفة، بل جاء ثمرة جهد منظم استثمرت فيه السعودية ثقلها السياسي وعلاقاتها الدبلوماسية الواسعة، بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان حفظهما الله. كما كان لجهود وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان، عبر جولاته المكوكية واتصالاته المتواصلة، أثر بارز في تنسيق المواقف وترتيب الأولويات على أعلى المستويات. ولعل المفارقة البليغة أن يُعقد المؤتمر الدولي يوم 22 سبتمبر، أي قبل يوم واحد فقط من ذكرى اليوم الوطني السعودي، وكأن القدر شاء أن يقترن هذا التاريخ بمسارين متوازيين: ذكرى توحيد المملكة، وتاريخ اعتراف العالم بالدولة الفلسطينية. وهي رسالة رمزية تؤكد أن السعودية لا تكتفي بالاحتفال بإنجازاتها الوطنية، بل تربط مصيرها بمصير قضايا الأمة وفي مقدمتها فلسطين. صحيح أن اعتراف الدول بفلسطين قد يبدو للبعض خطوة رمزية، لكنه في الحقيقة يراكم زخمًا دوليًا يضع الاحتلال تحت ضغط سياسي وقانوني متزايد، خصوصًا مع إقرار جدول زمني محدد لإعلان الدولة الفلسطينية. لقد تجاوزت الجهود الدولية مرحلة الاستنكار اللفظي، وأصبح العالم مضطرًا للتعاطي مع الحقائق على الأرض، فيما يواجه الاحتلال انقسامات داخلية عميقة بين تيار متطرف يصرّ على العدوان، وأغلبية بدأت تميل إلى البحث عن حلول جذرية للأزمة. إن المؤتمر المرتقب سيمثل بلا شك نقطة انعطاف تاريخية في مسار القضية الفلسطينية، وسيكتب التاريخ بأحرف من نور ما بذلته المملكة من جهود صادقة لنصرة أشقائها الفلسطينيين. وسيظل هذا الإنجاز شاهدًا على أن السعودية قادرة على تحويل مواقفها المبدئية إلى قرارات أممية، وإلى خطوات عملية تمهّد لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدسالشرقية.