عندما نقرأ المتنبي، لا نقرأ شاعراً من القرن الرابع الهجري فحسب، بل نقرأ إنساناً يتصارع مع ذاته ومع العالم، ويُصغي إلى أعمق ما في النفس البشرية من قلق وطموح واعتداد. المتنبي لم يكن شاعر مدح أو هجاء عابر، بل كان شاعر وجود وفكر، كلماته تنبض بحسٍّ فلسفي يجعلها صالحة لكل زمان ومكان. تميّز المتنبي بجرأته على القول، فقد خاطب الحياة والموت كما خاطب الملوك والأعداء. كان يرى في ذاته مشروعاً أكبر من حدود الجسد أو السلطة، حتى قال بيته الشهير: «إذا غَامَرتَ في شَرَفٍ مَرُومِ ** فلا تَقنَعْ بمَا دُونَ النّجُومِ» هنا تتجلّى فلسفته: إن الإنسان لا يُعرّف بحدوده الضيّقة، بل بطموحه اللامتناهي. هذا الوعي بالطموح الإنساني هو ما يجعل شعره أكثر من مجرد أدب؛ إنه تأمل في معنى الوجود. لم يتردد أيضاً في مواجهة الجانب المظلم من الحياة: الغربة، الخوف، الخيانة، والموت. ولعل أعظم ما يميز شعره أنه لم يكتب ليمجّد سلطاناً فحسب، بل كتب ليكشف عن كرامة الفرد وسط عالم قاسٍ. ولذلك ظل شعره حياً، لأنه يحاور داخل كل قارئ سؤالاً قديماً: ما معنى أن تكون إنساناً؟ وربما سر خلود المتنبي هو أن شعره لم يُكتب لزمانه وحده، بل للإنسان أياً كان عصره. قصائده تتجاوز حدود التاريخ والجغرافيا، لتصبح معاصرة في كل وقت ومكان. فمنذ أكثر من ألف عام، ما زال القارئ يجد فيها صدى لواقعه، وكأن المتنبي قرأ النفس البشرية إلى أبعد من زمنه، حتى بدأ وكأنه يتحدث عن حاضرنا وربما عن مستقبلنا أيضاً. لقد استطاع أن يضع يده على جوهر الإنسان، على صراعاته الداخلية وأسئلته الكبرى، لذلك ظل شعره حياً يرافق كل جيل، كأنه يكتب عنهم وعنا في آن واحد. وإذا كان المتنبي قد كتب شعراً لا تحدّه الأزمنة ولا الأمكنة، فإن هذا العمق في ملامسة جوهر النفس البشرية نجده حاضراً أيضاً في شعر شاعر عصرنا الحديث، سعد بن جدلان (رحمه الله). فمع أن الفارق بينهما يمتد لأكثر من ألف عام، إلا أن كليهما جعل من الشعر مساحة للتعبير عن الإنسان في ضعفه وقوته، في فرحه وحزنه، وفي علاقته بالآخرين وبالحياة ذاتها. سعد بن جدلان، بلغته البسيطة وصدقه الشعبي، استطاع أن يلتقط المشاعر اليومية ويحوّلها إلى صور شعرية صادقة، تماماً كما فعل المتنبي بطريقته الفصيحة والفخمة. كلاهما كتب ليقترب من وجدان الناس، لا ليكون صوت النخبة وحدها. وإذا كان المتنبي قد رفع الكبرياء والطموح إلى مصاف الفلسفة الإنسانية، فإن سعد بن جدلان أضفى على التجربة الشعرية حرارة العاطفة وصدق الإحساس الإنساني الذي يفهمه الجميع. إن القارئ والمستمع لسعد بن جدلان يجد فيه الفكرة نفسها التي زرعها المتنبي منذ قرون: إن الشعر الحقيقي لا يموت، لأنه مكتوب بمداد التجربة الإنسانية ذاتها. ولذلك يمكن القول إن المتنبي وسعد بن جدلان، رغم اختلاف اللغة والأسلوب والزمان، يشتركان في جوهر واحد: إنهما قارئان عميقان للنفس البشرية، يكتبان عنها وكأنهما يترجمان ما يعيشه كل إنسان في أي زمن. فإذا تأملنا موضوع الشجاعة، نجد أن كلا الشاعرين يستعرضها بطريقة تضع الإنسان أمام ذاته. فالمتنبي قال: «إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ ** فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ» هنا، الشجاعة عند المتنبي ليست مجرد فعل جسدي، بل موقف وجودي يتجاوز المألوف، فعل يرفع الإنسان إلى مستوى الكرامة والفخر. بالمقابل، نجد سعد بن جدلان يعكس الروح نفسها بطريقة شعبية مباشرة، حين يقول: «لا صار ما في يدك إلا الهقاوي ** خلك شجاع وخلِّها للهواجي» الفرق في الأسلوب واضح: المتنبي يعبر بالبلاغة والفخامة، بينما سعد بن جدلان يقرب الفكرة إلى الناس بصدق لغته اليومية. ومع ذلك، يظل جوهر المعنى واحداً: الشجاعة خيار إنساني يتحدى الصعاب مهما صغر الإمكان. أما عندما نتأمل موضوع الوفاء ومواجهة الصعاب، نجد أن المتنبي وسعد بن جدلان يتقاطعان في جوهر المعنى، رغم الفارق الزمني الكبير بينهما. فالمتنبي يقول: «إذا أنت أكرمت الكريم ملَكتَهُ ** وإنْ أنت أكرمت اللئيم تمرّدَا» هنا تتجلى حكمة المتنبي في قراءة النفوس: فالعطاء والوفاء يثمران عند الكريم، فيتلقى العرفان ما يستحقه، أما عند اللئيم، فلا يثمر المعروف إلا التمرد والنكران، لتكشف الطبيعة الحقيقية للقلوب غير النقية. أما سعد بن جدلان فيعبر عن الفكرة نفسها بأسلوب شعبي مباشر، حين يقول: « يدك لا مدت وفاء لا تحرى وش تجيب ** كان جاتك سالمه حب يدك وخشّها» هنا يحث الإنسان على العطاء بسخاء، دون انتظار المقابل، محافظًا على نقاء قلبه، وفي الوقت نفسه يسلط الضوء على تفاوت طبائع الناس في استقبال الخير والتعامل معه. بهذا يظهر جلياً أن المتنبي وسعد بن جدلان، يشتركان في قراءة النفس البشرية وتعابيرها الجوهرية، ويقدمان دروساً تتجاوز الزمان والمكان: كالشجاعة والكرم، جوهر الإنسان، مهما تغيّر العصر أو المكان. إن المقارنة بين المتنبي وسعد بن جدلان تبرز حقيقة عميقة: الشعر الحقيقي ليس محصوراً بزمنٍ أو مكان، بل هو صدى للروح الإنسانية نفسها. المتنبي، بفصاحته وبلاغته، رفع الكلمات إلى مقام الفلسفة والوجود، بينما سعد بن جدلان، ببساطته وصدقه الشعبي، جعل الشعر قريباً من قلب الإنسان اليومي. كلاهما، رغم الفارق الزمني والثقافي، قارئ حاذق للنفس البشرية، يترجم صراعاتها الداخلية، طموحها، شجاعتها، وكرمها إلى كلمات خالدة. في هذا، نجد أن الشعر الجيد يربط بين الأجيال، ويُعيد إلى الإنسان نفسه، مهما اختلفت الأزمنة. وبالتالي، يمكن القول إن روح المتنبي تتجدد في شعر سعد بن جدلان، كما أن تجربة سعد تعكس استمرارية هائلة في فهم الإنسان، ليصبح الشعر جسراً يربط بين الماضي والحاضر، بين الفخامة والفكرة البسيطة، وبين القلب والروح، ويبقى حياً في كل زمان ومكان. لذلك، رأيي الشخصي أن سعد بن جدلان -رحمه الله- هو متنبي عصرنا الحالي.