من أكثر المقاربات المهمة لدراسة العلاقة الجدلية بين «العقل والدين» أو «العقل والنقل» ومدى قدرة العقل البشري على إجابة تساؤلاتنا عن حقيقة معتقداتنا الدينية، تلك الدراسة التي قدمها المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه المهم «حياة الحقائق» وطرح فيها وجهات نظره عن علاقة العناصر العقلية بالمعتقدات الدينية، وهل يمكن لها تحقيق الإيمان الكامل في وجداننا؟ يعتقد لوبون أن العقول لا يمكن لها تسويغ إيماننا بمعتقداتنا الدينية، فالمعتقدات الدينية مسائل إيمانية لا يمكن تسويغها بالعقل. يقول لوبون: «الآن ترى علماء اللاهوت يعترفون طائعين أن العقل لا يصلح لتسويغ العقل وتدل جميع الملاحظات حول تكوين الأديان وتطورها على اشتقاق اليقين الديني من عناصر عاطفية ودينية، لا من البراهين العقلية. فالبراهين العقلية، وإن كانت تتنضد فوقه أحيانًا، لم يكن تأثيرها في المعتقدات إلا صفرًا على العموم». المعتقدات وفق رؤية لوبون لا تشتق من العقل لأنه محدود وقاصر في تعامله مع كل ما هو ميتافيزيقي أو غيبي، المعتقدات الدينية ليست نتيجة استدلال عقلاني بل نتيجة حاجة نفسية وروحية في الإنسان حتى ولو حاول الإنسان أن يقدم البراهين والاستدلالات العقلية فإنها في نهاية المطاف لا تنتج الإيمان لأنه ظاهرة شعورية معقدة، ولوبون كما يتضح في كتابه يعطي الأسبقية للعنصر اللامعقول أو العنصر الوجداني أو غير العقلي في تشكيل المعتقدات. العقل كما يبدو من كتاب لوبون «حياة الحقائق» يبدو محدودًا في تعامله مع الدين والقيم والمقدسات، وهو هنا يهمش العقل في قضايا الدين ويعلي من شأن اللاعقلاني. يمكننا القول بإن فكرة لوبون في بعض جوانبها تتقاطع مع فكرة تقديم «النقل على العقل» وتبدو بأنها متفقة معها في الإجمال وإن كان لا ينطلق من موقف ديني بل من تحليل نفسي واجتماعي للظاهرة الدينية. وتظهر مقولة «تقديم العقل على النقل» بأنها مغلوطة وغير عقلانية وتعكس جهلًا مركبًا بحقيقة العقل البشري وإمكانياته وحدوده. وفي القرآن الكريم تقدم مسألتي «الإيمان والكفر» على أنها قلبية لا عقلية ويقدم القلب - لا العقل - كمركز للإدراك الروحي والمعنوي، ففي قوله تعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها) تبدو مكانة القلب أرفع وكأن الفقه الحقيقي والفهم العميق مرتبط بالقلب لا بالذهن أو العقل المجرد وفي قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام) وهنا يقدم الإيمان وكأنه نتيجة لانشراح الصدر أو القبول القلبي أي أن القلب هو مقر الطمأنينة والإيمان وهذا تأكيد أن المعتقدات الدينية لها بعد شعوري داخلي بعيد كليا عن النظرة المادية أو العقلانية التي تحصر الفهم في الدماغ أو الذكاء العقلي. ففي كثير من السياقات القرآنية يعطى القلب دورًا مركزيا في قضايا الإيمان فهو العضو الذي يستقبل الإيمان ويفقه ويهتدي ويطمئن أو يضل أو يعمى أو يمرض. القلب في القرآن هو مركز الإدراك، فالقلوب تفهم وتعقل وتهتدي وتبصر، بينما يظهر العقل مهمشًا في الخطاب القرآني إجمالا، ففي الآية القرآنية: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) نجد هنا ربطًا مباشرًا بين الفهم والقلب وليس العقل المجرد. القلب في القرآن الكريم ليس فقط مركزًا للمشاعر بل أيضًا أداة حاسمة للفهم والإدراك ومن خلاله يهتدي الإنسان إلى الإيمان أو يعمى ويضل عنه، هذا العمى يمنع الإنسان من الإيمان والاعتبار والتأثر بالآيات القرآنية والوحي المنزل، الفهم في القرآن الكريم ليس نتاج المنطق العقلي أو الذكاء المجرد بل نتيجة انفتاح القلب وانشراحه واستعداده لتلقي الهداية. الفهم الحقيقي والهداية والتمييز بين الحق والباطل تبدأ من القلب لا من البراهين المنطقية والتحليلات العقلية، القلب موضع التلقي وموضع الاستجابة والإعراض.