«The Sopranos» الأمريكي ليس مجرد مسلسل جريمة يحكي قصة زعيم عصابة مافيا وتطور شخصيته، بل واحد من أهم الأعمال التلفزيونية الغنية بالدلالات الثقافية، ويظهر فيه الصراع الثقافي للمهاجرين الإيطاليين في أكثر من سياق. هذا الصراع يمكن توظيفه لفهم الحالة الثقافية في الحضارة العربية الإسلامية، فالمجتمع العربي في العصر العباسي -على سبيل المثال- ونظرا لاحتوائه أطيافا متعددة من العرقيات والثقافات ذات الأصول الدينية المختلفة، يمكن أن يكون شبيها بحالة المجتمع الأمريكي. فالمجتمعات ذات الثقافات المهيمنة يمكن أن تواجه تحديات الأقليات المطالبة بالاعتراف بهويتها الدينية والتكيف مع اختلافاتها الثقافية. صراع الهوية الإيطالية للمهاجرين مقابل الثقافة الأمريكية الحديثة، نجده ماثلا في سلوك «توني سوبرانو» الشخصية المحورية بالمسلسل، باعتباره زعيم مافيا من أصول إيطالية يعيش حياة مزدوجة، فهو متمسك بجذوره التقليدية وفي الوقت نفسه نجده غارقا في نمط الحياة الأمريكي المعاصر. وصراعه الداخلي ما بين التمسك بقيم الثقافة الإيطالية ونزعة التحرر منها، واعتناق مبادئ وقيم الثقافة الأمريكية جعله يعيش هو وأفراد عصابته نوعا من الاغتراب الثقافي الذي أوصل توني سوبرانو لمرحلة مرضية، ألجأته إلى عيادة نفسية والخضوع لجلسات علاجية مطولة، والإجابة عن أسئلة الأخصائية النفسية التي وجدت نفسها في حيرة من حالة توني النفسية المعقدة. ذهاب توني للأخصائية النفسية واجه رفضا من أعضاء العصابة، لأنهم يعتبرونه تهديدا لصورة الزعيم القوي وعلامة ضعف وفق مبادئ العصابة وثقافتها المعاكسة للثقافة الأمريكية التي تنظر للعلاج النفسي كنوع من تطوير الذات وتنمية الشخصية. توني كان يشعر بالغربة في مجتمعه سواء داخل عائلته أو في المجتمع الأمريكي الأوسع بثقافته الاستهلاكية المهيمنة، فهو يشعر بعدم انتمائه وعجزه عن الاندماج سواء في عالم المافيا الإجرامي القديم أو في المجتمع الأمريكي المعاصر، وكل أعضاء العصابة من أصول إيطالية يشعرون بالحيرة بين عالمين متناقضين، عالم البيت والأسرة وعالم العصابة والمجتمع، ما يعكس اغترابهم الداخلي وعدم قدرتهم على التكيف الكامل مع الثقافة السائدة. الصراع الثقافي في «The Sopranos» ليس موضوعا جانبيا بل هو جوهر العمل، الصراع بين القديم والجديد، ويعكس الاغتراب الداخلي لشخصيات المسلسل وعدم قدرتها على التكيف الكامل مع الثقافة السائدة. صراع بين الجذور والانتماء والتحرر والتغيير وكل شخصية تسعى بطريقة ما لتحقيق توازن نفسي مستحيل بين الماضي والحاضر. وتجربة المهاجرين الإيطاليين في أمريكا الحديثة تفتح بابًا للمقارنة مع حالة «الأعاجم» في المجتمعات العربية القديمة، وكيف حاولوا الحفاظ على هويتهم الدينية والثقافية مع الخضوع لسلطة الدولة الإسلامية. يمكن ملاحظة ذلك في مؤلفات ابن سينا والفارابي التي تعتبر شكلا من أشكال المقاومة الثقافية ومحاولة تعديل عقيدة المجتمع السائدة لتستوعب الاختلافات العقائدية للحصول على اعتراف سياسي ومجتمعي أكبر بهويتها الدينية. حالة ابن سينا والفارابي في الثقافة العربية تشبه - مع اختلاف السياق التاريخي - حالة توني سوبرانو، حالة الاغتراب الثقافي الذي عاشه المهاجرون الإيطاليون في المجتمع الأمريكي المعاصر، ومؤلفاتهما عبارة عن مقاومة ثقافية يائسة، للحفاظ على إرث ديني قديم ودمجه بالعقيدة الإسلامية المهيمنة. ودائما ما تصطدم الأقليات الثقافية بالأغلبية بشكل متزايد عندما تثار قضايا من قبيل الحقوق الدينية والعقائدية، والرفض والتهميش الذي تلاقيه ثقافة الأقلية. فاندماج ثقافات مختلفة ضمن ثقافة مهيمنة أكبر يشكل أمرا تلقائيا يحدث في حالة غزو مجتمع ثقافي لمجتمع ثقافي آخر يمكن أن تؤدي لعزلة ثقافية وإقامة مجتمع موازٍ مصغر، وهذه الظاهرة لا تغيب عن أعين رجالات الدولة ومستشاريهم. فالعزلة الثقافية للأقليات يمكن أن تقود لمجتمع موازٍ يمنح الحق بالمطالبة بأشكال متنوعة من الحكم الذاتي لضمان استمرارية بقائها على نحو مميز. الثقافات الموازية يمكن أن تهدد تجانس المجتمع وتماسكه، ورجال السياسية دائما ما يطمحون لبلوغ النموذج المثالي لكيان سياسي متجانس، وهذا لا يحدث إلا بالاهتمام بعقائد الأقليات وقياس إمكانية دمجها بالثقافة السائدة لأنه يمكن السياسي من ضبط الصراعات الثقافية المحتملة التي قد تنشب بين ثقافتي الأغلبية والأقلية. ووفق هذه الرؤية يمكن النظر لمشروعات علمية رائدة كمشروع الترجمة في زمن هارون الرشيد والمأمون في العصر العباسي، وشروحات ابن رشد للموروث اليوناني في العصر الأندلسي.