لم يكن الإنسان في تاريخه الحديث أكثر اتصالًا بالعالم كهذا العصر. لكنه في المقابل، لم يكن أكثر قلقًا، أو أكثر شعورًا بالنقص كما هو اليوم. شيء ما تغير في تركيبة الدماغ البشري. وكأن التقنية لم توسّع إدراكنا، بل زادت من جوعنا. صارت العين لا تكتفي، والقلب لا يهدأ، والعقل لا يتوقف عن اللهاث وراء صورة أجمل، أو رفاهية أكبر، أو نجاح يبدو على الآخرين وكأنه في المتناول، لكنه كلما اقترب خذلنا واختفى. في زمن مواقع التواصل، لم يعد الإنسان يرى حياة غيره كما هي، بل كما يُراد له أن يراها. صور منتقاة بعناية، ضحكات مجمّلة، إنجازات معزولة عن تعبها وسهرها وفشلها السابق. وهكذا، يبدأ العقل بالمقارنة، ويقع في فخّ «لماذا لا أملك مثلهم؟»، دون أن يدري أنه يقارن حياته الحقيقية بمشهد تمثيلي لا تُعرض منه إلا أكثر اللقطات سطوعًا. القلق في جوهره ليس خوفًا من شيء محدد، بل شعور غائم بأن هناك شيئًا ناقصًا دائمًا. وفي عصر التقنية، تضاعف هذا الشعور. صار الإنسان لا يكتفي بعلاقات طيبة أو حياة مستقرة، بل يريد أن يعيش كما يعيش «المؤثرون»، كما يظهر «المشاهير»، كما يُصوّر أصحاب الحسابات اللامعة. يريد السفر المستمر، والسيارات الفارهة، والملابس الفاخرة، والمطاعم التي تُصوَّر أكثر مما يُستَمتع بها. وهنا تكمن المأساة: أن الطمع لم يعد في المال فقط، بل في كل شيء. طمع في الحب، في الجمال، في القبول، في التصفيق الرقمي. وكلما ارتفع مستوى الطمع، زاد التوتر، وكأن الدماغ لم يعد يهدأ إلا إذا حصل على «كل شيء». لكن الحقيقة أن «كل شيء» لا يأتي، ولن يأتي، لأن الصورة التي نلهث خلفها ليست سوى وهم. السعادة -خلافًا لما تروّج له التقنية- لا تحتاج إلى ثروة طائلة، ولا إلى خزانة مليئة بالماركات، ولا إلى عطلات أسبوعية في جزر بعيدة. السعادة، ببساطة، تسكن في التفاصيل التي لم تعد تُصوَّر: حديث دافئ مع صديق، نظرة امتنان من أم، إنجاز صغير بعد تعب، لحظة هدوء داخلي وسط الفوضى. نحتاج أن نعيد تدريب أدمغتنا على القناعة. أن نقول لأنفسنا: «أنا لست في سباق مع أحد». نقتنع أن دفء العائلة أجمل من ألف غرفة فندقية. وجبة بسيطة مع من نحب، أطيب من قوائم الطعام الراقية في مطاعم لا يعرف روّادها أسماء بعضهم. أن نصدّق أن القليل يكفينا، بل يريحنا، ويهدّئ ذلك الصوت القلق في دواخلنا. الرفاهية ليست خطأ، لكن تحويلها إلى مقياس للسعادة هو الخطأ. ليس كل من يملك سيارة فارهة سعيد، وليس كل من يرتدي أغلى الماركات يشعر بالرضا. كثيرون يُظهرون ترفًا خارجيًا ليُخفوا قلقًا داخليًا. وإن كانت التقنية قد أسهمت في شيء، فهو أنها أخفت المعاناة تحت فلاتر جميلة، وصدّرت لنا صورة خادعة عن «الحياة المثالية». وفي النهاية، علينا أن نتذكّر أن القلق لا يُعالج بمزيد من الاقتناء، بل بمزيد من «المعنى». أن نعيش حياتنا كما نقدر، لا كما يُراد لنا أن نبدو. أن نفرح بما نملك، لا أن نحزن لما ينقص. فالسعادة، كما كتب أحدهم ذات مرة، «ليست رفاهية ما تملك، بل أن ترى الجمال فيما تملك».