في كثير من المجالس، خاصة تلك التي تجمع بين كبار السن والشباب، لا يكاد يخلو الحديث من المرور على موضوع التقدم في العمر. هو ذلك الطيف الذي يتسلل إلى الكلمات خفية، وأحيانا يظهر صريحًا في نبرة التهكم أو سخرية عابرة، وأحيانًا يُطرح في شكل أسئلة تحمل قلقًا حقيقيًا: «وش بقى من العمر؟» أو «كبرنا وراحت علينا!»، بينما يرد الآخر ضاحكًا: «الله لا يوريك شيبتي وأنا أصور سناب!». هذه الأحاديث، على تكرارها، تكشف عن خوف دفين من الشيخوخة. الخوف من أن ينقضي العمر ونحن لا نزال نبحث عن أنفسنا، أو نحصي الخسائر، أو نطارد أوهامًا كان يجب أن نتركها خلفنا منذ زمن. والغريب في الأمر أن التقدم في العمر وهو فطرة إنسانية وسنّة كونية لا مهرب منها يُعامل أحيانًا كنوع من «العار»، بينما لا نجرؤ على طرح السؤال الأهم: هل كبرنا فعلًا أم أن أعمارنا تمضي ونحن مكاننا؟ ليس العار أن يشيب شعرك، أو أن تتبدل ملامحك، أو أن تصبح الذاكرة أقل نشاطًا. العار الحقيقي أن تتقدم في العمر دون أن تتقدم في الفهم. أن تمضي السنين دون أن تخوض مغامرة واحدة تستحق الذكر، أو أن تعيش دهرك تردد «ليتني فعلت» بدل أن تقول «الحمد لله أني جربت». أن تصل إلى الستين وأنت لم تترك بصمة، لم تحاول، لم تفشل ولم تنجح، لم تُلهم أحدًا، ولم تتجاوز خوفك من التغيير. في المجالس، حين يتبادل البعض السخرية من أعمارهم، أو يمازحون أحدهم بعبارات مثل «صرت على وجه التقاعد»، أو «بعدك تتكلم عن أحلام؟ خلاص كبرنا»، فإنهم في الواقع يعبرون عن شيء أعمق: ذلك الشعور الثقيل بأنهم لم يعيشوا الحياة كما يجب، أو أنهم لا يملكون ما يروونه للأجيال القادمة سوى الحنين أو الندم. أما الواقع، فهو أن العمر لا يُقاس بالسنوات وحدها، بل بما حققته في تلك السنوات. ربما تجد شابًا في العشرين لا يملك طموحًا، ولا شغفًا، ولا حتى فكرة عن مستقبله، وتجد رجلًا في السبعين يخطط لمشروع جديد، ويقرأ كل يوم، ويسافر ويخوض التجارب وكأنه بدأ للتو. فلا تخف من التقدم في العمر. خف من أن تمضي عمرك خاويًا، مترددًا، عالقًا في المألوف، تخاف التغيير أكثر مما تخاف الفشل. وتذكر دائمًا: الحكمة لا تأتي مع السنوات، بل مع التجربة، ومع الجرأة على أن تعيش الحياة بحقيقتها، لا كما يريدها الناس. دعنا نستبدل بالتهكم من العمر كلمة تقدير، وبدل السخرية من الشيب نحتفي به كوسام، لأن العيب ليس في أن تكبر.. العيب كل العيب أن تكبر بلا أثر.