تتجلى ظاهرة «الهشاشة النفسية» كواحدةٍ من الظواهر الأكثر إلحاحًا في مجتمعاتنا العربية، لا سيّما في ظلّ تنامي الضغوط اليومية وتضاؤل المساحات الآمنة للتنفيس والتعبير. ولا غروَ في ذلك، إذ إنّ الإنسان المعاصر بات محاطًا بعوامل تآكل نفسي لا تتوقف عند حدّ الصدمات الكبرى، بل تمتد إلى التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية، ولعلّ أوضح ما يُفسّر هذه الظاهرة هو أنّ البناء النفسي للأفراد لم يَعُد يتحمّل القدر ذاته من المواجهة والصبر وتحمّل المسؤولية إلا من رحم ربي. فقد نجد شابًا في العشرين من عمره ينهار باكيًا لمجرد فشله في مقابلة عمل، أو فتاةٍ تعاني من نوبات هلعٍ بسبب تعليقٍ سلبي على منصّات التواصل الاجتماعي، لم تعُد مثل هذه الأمثلة بالنادرة ولا بالمفاجئة في بيوتنا، بل أمست مرآةً لواقعٍ هشٍّ يتكرّر، وناقوس ينذرنا بما هو آت. فلك أن تتخيل عزيزي القارئ طالبة جامعية تبلغ من العمر 22 عامًا، وقد اعترتها نوبة بكاءٍ، وتقوقع على ذاتها، لا لشيء إلا لأنها تلقت نقدًا صارمًا من أستاذها، تبعه بعض تعليقات وتهكمات من هنا وهناك، لم يكن النقد قاسيًا بمعاييره الأكاديمية، إلا أنه ارتطم بجدار هشاشةٍ نفسيةٍ بنيت على قاعدة رخوة مهترئة. ومن زاويةٍ تحليلية، يبرز للعيان ضعف التكوين الأسري في دعم الطفل نفسيًّا منذ سنواته الأولى في كثير من الأحيان، فناهيك عن كون الكثير من الأسر تفتقر إلى ثقافة الدعم النفسي والحوار المفتوح، فإنّ بعضها للأسف يُمارس دون وعي أنماطًا من التحقير والتهويل والتنمر ينجم عنه ما يُعرَف في علم النفس ب«الذات الهشّة». ويعود ذلك، في جوهره، إلى نمط التربية الذي يبالغ في الحماية، أو على النقيض، يُمعن في التوبيخ، والتقريع، والإهمال، والتهميش، وتمثِّل هذه الظاهرة، «ظاهرة الهشاشة النفسية» - إذا ما أجمعنا على أنها وصلت إلى مرحلة كونها ظاهرة-، تمثل علامةً فارقة في مجتمعاتنا بمختلف أطيافها، ولا سيما الخليجية لأسباب شتى، أهمها رغد العيش والرفاهية المفرطة عند البعض، وتولي عاملات المنازل -في الغالب- تربية أبنائنا منذ نعومة أظافرهم، لتتجاوز «الهشاشة النفسية» البعد الشخصي، فتصبح عبئًا مجتمعيًّا واقتصاديًّا، بل وربما أمنيًا. ولا يغيب عن الناظر في أحوال الشباب العربي وما يعانيه كثيرٌ منهم من ضيقٍ نفسي وتقلّبٍ مزاجي، وتراجعٍ ملحوظ في الإنتاجية والقدرة على تحمّل الصدمات، ما ينعكس في انسحابٍ صامت من ميادين التعليم والعمل والتفاعل المجتمعي. وما يدعم هذا الطرح أنّ اضطرابات القلق باتت تُعدّ السبب الأوّل في التغيب المدرسي والجامعي في عددٍ من الدول العربية. ليس هذا وحسب، فالصورة لا تكتمل من دون الإشارة إلى معول هدم آخر للنفس البشرية، وعنصر إضعاف وتفتيت وإيهان، وهو سلوك بعض الأفراد، لاسيما الآباء وربما أيضا المجتمعات، السلوك المتمثل في تمجّيد وتضخيم «النجاح السريع» و«الظهور اللامع»، في مقابل تهميش وتجاهل قيم الصبر والتطوّر التدريجي، وتحمل الفشل كجزء من معادلة النضج الحتمية، بل إنّ بعض الدراسات تذهب إلى أبعد من ذلك، فتؤكّد أنّ البيئة الإعلامية السائدة تروّج لنماذج زائفة وتغذيها فيُخيل للمتلقّي بأنه متأخّر ومعطّل وعاجز عن تحقيق ما تحققه تلك الزمرة من المؤثرين اجتماعيًا وفقاقيع الإنترنت.. فهل يُعقَل بعد ذلك أن نُطالب هذا الفرد بأن يتحمّل إحباطاته اليومية من دون أن تتكسّر مجاديف نفسه تحت وطأتها؟. وحتى لا نطيل ونوغل في التشخيص والتحليل وسرد الأمثلة والبراهين، علينا التسليم بغياب سياسات دعم الصحة النفسية في بيوتنا والمدارس والجامعات، بل حتى في بيئات العمل، الأمر الذي يفاقم حدة الهشاشة النفسية ويسرع وتيرتها. فعدد كبير من المؤسسات لا تزال تتعامل مع "الانهيار النفسي" كضعفٍ شخصيّ أو خللٍ أخلاقيّ، لا كحالةٍ تستوجب الفهم والعلاج. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، نجد أن بعض الدول التي أولت الصحة النفسية مكانةً في مناهجها التعليمية وبرامجها المدرسية قد بدأت تجني ثمار هذا الاستثمار، حيث لمس القائمون على هذه المبادرات تحسّنًا واضحًا في سلوك الطلبة واستجابتهم النفسية. ما يعزّز هذا الرأي أنّ التعامل مع الهشاشة النفسية لا ينبغي أن يُختزل في المراكز العلاجية وحسب، بل يجب أن يبدأ من البيت، ويتعزّز في المدرسة، ويُكرّس في وسائل الإعلام. ومن الواقع العملي، يمكن أن نتخيّل ما قد يُحدثه تطبيق برامج أسبوعية بسيطة في المدارس تهتم بالترفيه النفسي وتفتح المجال للحوار المفتوح بين الطلبة، إذ من شأن مثل هذه المبادرات أن تخلق مناخًا أكثر اتزانًا وأقل توترًا داخل البيئة التعليمية. انطلاقًا مما سبق، نخلص إلى أنّ الهشاشة النفسية ليست مرضًا طارئًا أو ظاهرة منعزلة، بل هي انعكاسٌ لتراكمات ثقافية وتربوية واجتماعية. وهي، في جوهرها، صرخةُ فردٍ في وجه منظومةٍ أهملته طويلًا وأساءت فهمه. أما المستقبل فينذرنا بمزيدٍ من التدهور (لا قدر الله) ما لم يتم تدارك الأمر من الجذور وفوراً، وأول خطوة في هذا الصدد، على حد تقديري، تذكير أنفسنا وأبناءنا بقوله تعالى ﴿ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين﴾. ولا مناص أيضا من ضرورة إعادة صياغة مفهوم القوة النفسية، ليس باعتبارها إنكارًا للألم، بل قدرةً على مواجهته وتجاوزه، بل والاستفادة منها. فالمجتمع الذي يحتضن هشاشة أفراده بوعي، هو ذاته المجتمع القادر على توليد القوة والصلابة من رحم الهشاشة ذاتها.