كثيراً ما نسمع من يقول: أنا لست سنيا ولست شيعياً أنا مسلم أتبع القرآن الكريم والسنة الصحيحة، أنا لا أريد أن أكون مقوداً لشخص سواء أكان عالماً أم معمماً، ميتا أم حياً قديماً أم حديثا، فحسبي ما قال الله تعالى وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، ويكفيني من العالم الحق أن يخبرني بما لا أعرفه منهما حينما أحتاج إليه، أما العالم الذي يريد مني أن أتبعه في كل ما يقول فلن أطيعه أبدا. هكذا نستمع إلى البعض؛ وليست الخواطر حين يقول صاحبها هذا الكلام طيبةً تجاه أهل العلم، فأنت تراهم يحيفون عليهم ويستنكرون أقوالهم ويستنقصونهم، وقلما تجد منهم طيب النفس، أو محايداً، مع أنهم يدعون المحبة وطيب النفس والحياد. ولو كانت الخواطر طيبة لما قالوا مثل هذا الكلام الذي يتضمن دعوى منهم ضد أهل العلم، وهي أنهم يرونهم كما قالوا متشبثين بآرائهم ويلزمون الناس بها، وعندهم أن كل من لا يأخذ بتلك الآراء في تباب؛ والحقيقة: أن هذه الدعاوى ليست صواباً، وصاحبها لا يستطيع أن يأتي على شواهد صحيحة لها، إلا من غير العلماء ممن يزعمون انتماءهم إليهم، وتُكَذِبُ ذلك الوقائع، أو من كثير من علماء أهل البدع الذين يشغلهم الدفاع عن بدعهم عن حقيقة العلم وأهله؛ أما العلماء الصادقون الربانيون فلن تجد ذلك عندهم؛ بل تجدهم أرفع شأناً وأعز مكانة من أن يصيروا كما ادعى عليهم هذا المدعي. نعم: إن العلماء تكثر عليهم الدعاوى ويستحل البعض عليهم الفِرى، هذا من المعروف المشاهد؛ لكن كذلك لديهم من المحبين والمقبلين على كلامهم المستأنسين بما يقولون الكثيرون، إلا أنهم يغلب عليهم الضعف عند الحجاج؛ لا لضعف ما يتبنونه من حقيقة العلماء، وإنما لإيمانهم بما عندهم إيماناً تضعف عنده دعوى كل مدع، يرونها تذهب هباء خير من أن تُطال بالرد عليها والاستصغار لها. ومما يحسن أن يُقال هنا، أي: في مقام الرد على من نفى أن يكون سنياً أو شيعياً ونفى سلطة العلماء على رأيه، وأنَّ حَسْبَهُ كتابَ الله والسنة الصحيحة: أنه في حقيقة أمره يفكر بطريقة سلفية، إذ ما يذكره هو عقيدة السلفيين ومنهجهم، وهو ما يأمر به علماؤهم، فتجد السلفيين أكثر الناس تحرراً من أن يأخذوا بقول عالم بعينه؛ولن أعود لأقوال العلماء من السلفيين لأثبت ذلك، لأن كثيراً من علماء غيرهم يدعون هذه الدعوى، مع أنهم في التطبيق على خلاف ذلك، فتجد العالم الأشعري أو الماتريدي يُلزِمُ غَيرَه بمذهب المالكية والشافعية والحنفية في الفروع، ثم يلزمهم بما نسب إلى الأشعري وما قاله الجويني والآمدي وأبو المعين النسفي في العقائد، مع أنه عند الحديث يتحدث عن اختلاف مشارب الناس وطبائعهم، ويُكثِر من هذا الكلام، مع أنه عند الفتوى يلزمهم بِما التزمه هو، مع أنك حين تفتح كتب أولئك لا تجد استدلالاً بالكتاب ولا بالسنة؛ بل استدلالهم برؤى يعتقدون أنها عقلية وأنهم يوفقون بينها وبين الكتاب، مع أنها في حقيقة أمرها مخالفة لظاهر الكتاب، ويختلفون في تأويلها تأويلاتٍ تصرفها عن ظاهرها بزعم أن الظاهر لا يوافق العقل؛ أما أهل التصوف فيزعمون أنهم أشاعرة أو ماتريدية، وهذا زعم يلبسون به على صغار المريدين، أما الحقيقة فتشي بها كلمات كبارهم وحضراتهم، كما تشي بها سِيَر الأكابر منهم التي تجدها في كتب طبقات الصوفية؛ وحديثاً بدأ غلاة المتصوفة يعربون عن حقيقتهم، فتراهم في مقاطعهم يُظهرون الشرك بالله، والعبادة غير المشروعة ومباينة الشرع والعقل معاُ مع قولهم إنهم أشاعرة أو ماتريدية. قلت هذا ما عليه سائر الناس أما السلفيون، فالعبرة عندهم بالنص سواء أكان كتاباً أم سنة صحيحة؛ ويعتبرون الإجماع إذا كان للسلف؛ واعتبارهم له لأنه منصوص عليه في كتاب الله قال تعالى {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله، ما تولى} 115 النساء؛ كما أنهم، أي السلف، لا يجمعون إلا على خبر سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما إذا اختلف السلف وأجمع من بعدهم على رأي فلا يعدونه إجماعاً بخلاف مذاهب أكثر الأصوليين؛ أما القياس فإنما يحفلون به إذا كان قياساً صحيحاً على أمر منصوص عليه؛ أما إذا كان الأمر المقيس عليه غير منصوص، وإنما هو حكم مستنبط من حكم آخر، فيرجعون به إلى الأصل الذي استنبط منه، وقد يكون هذا الأصل سداً للذرائع أو فتحاً للذرائع فينظرون إلى ذريعة السوء أو ذريعة الخير التي تسد أو تفتح، وبذلك لا يخرجون عن الكتاب والسنة أبدا؛ ولا يرون أبداً رأي أبي المعالي الجويني: أن تسعة أعشار الشريعة مأخوذة من القياس، وأن النصوص لا تفي إلا بالعشر، وهو رأي أخذه عنه بقية أتباع المذاهب؛ ولم يأخذه عنه السلفيون؛ بل ردوا عليه، ومن أبرز من فعل ذلك منهم ابن قيم الجوزية في كتابه [إعلام الموقعين عن رب العالمين]، وهو عندي أعظم كتاب في أصول الفقه، فهو أعظم من المستصفى والمحصول وإحكام الأحكام وغيرها؛ لكنه لم يظهر إلا بعد أن ضعف المد المذهبي أمام السلفية. ولا يرى السلفيون للعالم من المكانة فوق ما هو عليه، بصير بالأحكام الشرعية من أدلتها الإجمالية والتفصيلية، عقيدةً وفقها؛ فمن كان من الناس بصيراً بحكم من الأحكام عن دليل صحيح ووجه استدلال صحيح، فلا يضيره ألَّا يكون عالماً، ويكون فقهه في هذا الحكم صحيحاً، لكن الإشكال أن كثيراً من الخلق يتبع هواه، وليس لديه فقه في الحكم المراد إلا اتباع الهوى؛ لذلك يجادل عن رأيه ولو واجهوه بالحجة الصحيحة وأبدوا له ضحالة رأيه ضل متمسكاً بما أملاه عليه هواه، ولو أدَّاه ذلك إلى إنكار مسلمات صحيحة مقطوع بها؛ كمن أنكر النسخ كي ينكر حد الرجم؛ ولو أثْبَتَّ له النسخ في الكتاب والسنة، وأثبتَّ له إجماع المسلمين على وقوعه حتى أهل المذاهب المبتدعة كالمعتزلة، لظل على حاله لا يريم؛ فهؤلاء هم من لا يؤتمن على الأحكام، ويُردون عن الوقوع فيها، أما صاحب القصد السليم الذي آتاه الله من معرفة اللغة ما يميز به، ومن استقصاء الأدلة ما يجعله ملما بها؛ فليس شرطاً أن يكون عالماً كي يبصر في حكم من الأحكام.