في دلالة على أن العالم تغير، وأن أدوات المعرفة باتت مطاطة، يمضي بعض الناس اليوم إلى الاتكاء على تطبيقات التواصل الرقمي لقراءة الماضي والحاضر والمستقبل، لسقاية حديقتهم الفكرية، وبناء تصوراتهم عن هذا العالم.. جيل جديد ينشأ ومصادره لا تعرف التصنيف، ولا التدقيق، لكنه يملك القابلية لإنتاج حالة دوغمائية على تخوم صورة هنا، وفيديو هناك، وتقرير يعده الراوي العليم شات جي بي تي. كان التعصب بالأمس محمولا على توهمات اليقين الذي تغذيه سيرة هذا العالم أو ذاك، هذا الفريق وذاك الفريق، حروب الحقيقة التي اعتادها المتمرسون خلف أفكارهم وهم يعتقدون أنهم حراسها وملاكها الوحيدون، باتت قابلة لإعادة التدوير في صور أخرى من السجالات التي يتأتى يقينها من لعبة الخوارزميات وهي تدفعنا للانغماس الكلي في منطقة معينة، خوارزميات تعتمد التحليل لسلوكياتنا، والموافقة بينها وبين رغبات السوق.. تراقبنا وترسم ملامحنا، ومن ثم تعيد تكييف خياراتنا من خلال اقتراحات لا تنتهي من المعلومات والصور والمواقع. لا حياد ولا يقين في عالم التواصل الرقمي، إلا أن القوة الكبيرة على إشغال أدمغتنا بسيل المعلومات والمقاطع والتفضيلات، يهب المستخدمين شعورًا مضللًا بامتلاك شيء من اليقين، كلما ضخت الخوارزميات مزيد من محتواها الواسع، ضخ المستخدمون مزيدًا من الفضول لاستكشاف حقيقة مغطاة بأفعال التكييف والإعداد المستمر وفق تقنيات ترصد حتى خواطرنا غير المعلنة. ومع ازدياد الاعتماد على مواقع الذكاء الصناعي، الرافعة الجديدة للعبة الخوازميات المستمرة، تتسع دائرة اليقين في أداة يجري النظر لها باعتبارها أكثر شفافية وموضوعية، لأنها تنتمي لأفعال الآلة، في تنظيمها للمعلومات، وبناء النماذج التحليلية في صناعة المخرجات المطلوبة، لن يسأل أحد عن أشكال الحذف والتعميم، سؤال الفحص بعد الآن، بل لن يسأل أحد عن انجرافها وراء خيارات المستخدمين والمبرمجين على حد سواء، في طبيعة التكرار والاختيار، فالذكاء الصناعي تمكن من إيجاد حصانة أخلاقية له، وحصانة معرفية، وبالخصوص عند الأجيال التي وجدت فيه «سفينة النجاة» من مصائد محركات البحث التي كثيراً ما أعادت هندسة اقتراحاتها على الناس. هناك عملية إزاحة كبيرة لمصادر المعرفة التقليدية، مهدت لها أدوات التواصل، وتوشك أن تأخذنا إلى نهاياتها تطبيقات الذكاء الصناعي، مع دخوله كمرجعية لكل الموضوعات، بما يشبه خزانة علم الأولين والآخرين. الطرقات اليومية على باب الذكاء الصناعي تختصر سيرة البشر في إدراكها الجديد مع وسيلة أكثر سهولة وسرعة في إتاحة المعلومات بأي وقت.. الذين اعتادوا الإحالة على بحث هنا، وبحث هناك، لبناء معارفهم، والتأكيد على سلامتها، سينالهم شيء من الحيرة وهم يختبرون أفكارهم في صومعة التطبيقات المحسوبة على منتجات الذكاء الصناعي، حيث القدرة على صياغة آراء متماسكة، وبلوغ مراتب رفيعة في الإقناع. والحال أن الرواة الجدد للمعرفة تركوا وسيتركون على لغتنا وأنماط تفكيرنا ملامحهم، وسيسلبون منا قدرة النقد التي ستتضاءل مساحتها كلما اتسعت الثقة في الذكاء البديل، ثقة لا يدعيها حتى chatgpt وهو يرد على سؤال حول إمكانية أن يكون الذكاء الصناعي متحيزا، فهو يحيلنا على الخوارزميات التي تبنى على بيانات متحيزة في الأصل، ومصممة وفق نوايا محددة، وقد لا يكون فيها التمثيل العادل أو التجاهل لبعض الفئات والجماعات، وهذا يكفي ليعيدنا إلى إعمال لغة الشك كأداة لازمة في مقاربة معطيات الذكاء الصناعي ساعة الاتكاء عليها، لكي لا ينتهي الذكاء الصناعي إلا تقاعد للذكاء البشري عند المستخدمين.