الانتماء للوطن ليس شعارًا يُرفع عند اللزوم، ولا صوتًا يعلو في موسم، ولا اندفاعًا وقت فرح وغضب، بل هو موقفٌ متين، يُبنى في القلب، وينعكس في السلوك، ويظهر عند مفترق الطرق، وهو إدراكٌ عميق بأن الوطن ليس مجرد اسمٍ على الخريطة، بل بيتٌ يضمنا، وتاريخٌ نشأنا في حضنه، ومصيرٌ نشترك في صناعته، وكل ما نقوله ونفعله تجاهه، إما أن يرفعه أو يُثقل كاهله. قد يُحسن كثيرون الهتاف باسم الوطن، لكن الهتاف لا يصنع وعيًا، ولا يبني ولاءً، إذ ليس كل من رفع صوته محبًّا، ولا كل من التزم الصمت متخاذلًا؛ كما أن الوطنية لا يصح أن تُقاس بدرجة الانفعال، بل بعمق الإدراك، واتزان الموقف، ونقاء القصد، والمنتمي حقًّا يفكر حين يُغضب، ويُحسن الظن حين يُشوَّش، ويقدر النعمة قبل أن يختلف على تفاصيلها؛ فالانتماء الحقيقي للوطن لا يُختبر في وقت الرخاء، بل حين تتعدد وجهات النظر، وتعلو الأصوات، وتتشابك الأولويات، وعندها فقط يمكن أن يظهر بوضوح من يبني ومن يستهلك، ومن يلتزم بثوابت الوطن وإن تنوع في فروعه، ومن يُفرّط بكل شيء لمجرد خلاف عابر أو إحباط مؤقت. من اللازم أن نُفرق بين النقد والبذاءة، وبين النُصح والتشكيك، وبين الخلاف والتخوين؛ فالوطن لا يقوم على التغاير، بل على التنوع المؤدب، والتكامل المنضبط، والحوار الذي لا يفسد المودّة، ولا يصح أن نربط الوطنية بالتطابق الكامل مع الآراء المختلفة، ولا أن ننزعها ممن خالفنا عرفا أو فكرًا أو اجتهادًا، طالما بقيت الأصول محترمة، والنيات صادقة؛ فالوطنية ليست حالة طارئة، تظهر في جولة أو حملة، ثم تنزوي عند أول نقاش، بل هي وعيٌ متصل، يُحسن صاحبه الظن بمجتمعه، ويعذر المسؤول إذا اجتهد وأخطأ، ولا يتغافل عن الغلط، لكنه لا يُسقط الجميع لأجل خطأ فردي، وهنا أؤكد أن من أخطر ما يُبتلى به الوطن هو تحويل الانتماء إلى وسيلة للتخوين أو للوجاهة؛ فهذا يجعل الوطنية عبئًا على الفكر، وذريعة لإسكات الرأي، ويضعها في خانة الاستعراض لا البناء، رغم أن الأصل في الولاء أن يكون نابعًا من العقل، مدعومًا بالقلب، متزنًا بالنية، مستمرًا بالفعل، لا مجرد ترديد بلا وعي. الوطن يحتاج إلى كل صغير وكبير، ورجل وأنثى، وكاتب وقارئ، وفي الوقت نفسه لا يحتاج إلى من يهتف باسمه، بل إلى من يحمل همه، ويصون وحدته، ويُحسن الظن بأهله، ويفكر قبل أن ينفعل، ويقدّر قبل أن يحكم؛ وهؤلاء هم الذين تُبنى بهم الأوطان وتُصان، لا أولئك الذين يعلّقون الوطنية على حدة أصواتهم أو غرابة ألفاظهم؛ وفي ظل التحديات المتسارعة، والضغوط الاقتصادية والثقافية والفكرية، يصبح دور الأفراد محورًا في تعزيز اللحمة الداخلية، لا بإثارة الغبار، ولا بتوزيع صكوك الولاء، بل ببث الأمل، وتذكير الناس بما يجمعهم، وإطفاء حرائق التوتر قبل أن تشتعل. أختم بأن من يحب وطنه عليه ألا يضخم من السلبيات، بل يسعى لترميمها، بكلمة طيبة، ودعاء صادق، وموقف متزن، ومقال هادف، ولا بد أن يعرف من يكتب ويعلق ويغرد وينصح أنه حين يهم بفعل ما يهتم به، يصير مساهما، شاء أم أبى، في تشكيل الصورة العامة لوطنه، وعليه أن يدرك أن بعض الكلمات قد تفهم على غير مقصدها، ولا ينجو إلا الحكيم، ومن يفهم حديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "إياك وما يُعتذر منه"، ومن يخشى على نفسه من أن تقع الفأس فوق رأسه.