منذ ما يقارب قرنًا من الزمان، نشأت «جماعة الإخوان المسلمين» على يد مؤسسها حسن البنا، الذي حمل رؤية للجماعة تتجاوز حدود المكان، وتطلعات تمضي بعيدًا عبر الأزمان، لخّصها في قوله: «يجب أن نصل إلى أستاذية العالم، والوطن وسيلة وليس غاية». هذه الكلمات، في ظاهرها، مشحونة بالهِمّة والطموح؛ لكنها في جوهرها تحمل فكرة أممية قد لا تقف عند حدود السياسة أو الدعوة، بل تتعداها إلى مشروع هيمنة فكرية وتنظيمية على العالم. إلا أن الواقع التنظيمي الذي تشكّلت حوله الجماعة سار في اتجاه آخر، فلم تكن مقولة المؤسس حسن البنا في قاعدته: «نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه» – التي أراد بها التجميع وتكثير الأتباع للوصول للغاية التي هي السيطرة على العالم وتحقيق الخلافة المزعومة – كافية لتحقيق تلك الأحلام، في ظل الأوضاع التي واجهت الجماعة مبكرًا. فمنذ سنوات التأسيس الأولى، ظهر الشروخ في جدار الجماعة، عندما انشق أحمد السكري، نائب حسن البنا، اعتراضًا على تساهل القيادة في قضايا داخلية وأخلاقية. ثم توالت الانشقاقات من مفكرين ودعاة، ومع كل مرشد في الجماعة، كانت تظهر انشقاقات وانقسامات، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات. ولم يكن الخلاف داخل الجماعة مجرد تنوع في الرأي، بل غالبًا ما تحوّل إلى خصومة حادة تُقصي صاحبها خارج الصف، وتُلحق به اتهامات التخوين أو الانحراف. وبعد أحمد السكري والأحداث اللاحقة، بدأت الجماعة تُحكم أسوارها على الجميع، ووُضعت قرارات صارمة للولاء والطاعة العمياء، لا نقاش فيها ولا رأي مستقل. ومع تغير الزمن وتعاقب الأزمات، تحوّلت الانشقاقات من حالات فردية إلى موجات جماعية، ومن أعضاء إلى قادة. فخرجت تنظيمات من عباءة الجماعة، وتشكّلت من أبناء الإخوان أنفسهم. بل إن كثيرًا من التيارات المتطرفة وُلدت من رحم الجماعة. ومنذ سقوط حكم الإخوان في مصر عقب أحداث 30 يونيو 2013، دخلت الجماعة مرحلة جديدة من الانشقاقات، كشفت عن هشاشة البناء التنظيمي، وضعف القدرة على التكيّف مع التحولات. فلقد انطلقت موجة غير مسبوقة من الانقسامات، بدأت بانشقاقات شبابية وجماعية مبكرة، وتفجّرت لاحقًا بصراعات حادة بين قيادات الخارج، لا سيما في تركيا ولندن، حيث برزت جبهتان متصارعتان: واحدة بقيادة محمود حسين، وأخرى بقيادة إبراهيم منير قبل وفاته، ثم صلاح عبدالحق. فما عاشته الجماعة منذ عام 2013 وحتى عام 2025 لا يمكن وصفه بمجرد «خلاف تنظيمي»، بل هو تحوّل عميق، انتهى بها إلى موجات من الصراعات التي تضعف وحدة الجماعة وتؤثر عليها عامًا بعد عام، حتى تعددت الانقسامات وتفرعت، وظهرت اتهامات متبادلة بالفساد المالي، والتجاوزات الإدارية، واحتكار القرار، ما أدى إلى تفكك التنظيم إلى جبهات متناثرة، كلٌّ منها يدّعي الشرعية، ويمتلك خطابه وهيكله ومنصاته. وتزايد التباين بين الأجيال؛ فجيل الشباب تمرد على قيادة تقليدية لم تعد تعبّر عن طموحاته، ويطالب بالتجديد والمشاركة، في مقابل جبهات تكرّس خطاب المواجهة أو العزلة. وأحدث هذه الانقسامات ما حدث مؤخرًا بين فرعي الجماعة في مصر وسوريا حول الموقف من إيران؛ حينما أرسل «إخوان مصر» رسالة إلى المرشد الإيراني علي خامنئي، يؤكدون فيها دعمهم لإيران في مواجهة إسرائيل، خرج «إخوان سوريا» ببيان علني يرفض ذلك الموقف، ويُعلن البراءة من أي تقارب مع من وصفوهم بأنهم شاركوا في تدمير العراقوسوريا واليمن. هذا الخلاف الأخير لم يكن مجرد اختلاف سياسي، بل كشف عن عمق الشرخ في بنية الجماعة، ومدى التباعد بين فروعها، وانهيار مرجعيتها الجامعة. ختامًا، رغم ما تعرّضت له جماعة الإخوان المسلمين من أزمات داخلية وانشقاقات وانقسامات، وما سبق ذلك من حملات شديدة من الحل والمصادرة والملاحقة، فإنها ما زالت تمثّل جمرة تحت الرماد.