في زمن التسابق الأممي لصناعة التأثير الاقتصادي تتقدم المملكة العربية السعودية بخطى حثيثة لتوثق فصلًا آخر في مشهد الاقتصاد الوطني ليكتب بعنوان توطين الصناعة (Industrial Localization) وهو يشير إلى تركيز الصناعات في مناطق جغرافية محددة مما يؤدي إلى زيادة الكفاءة الإنتاجية والاستفادة المواد الخام المتخصصة في الصناعة من خلال تقليل تكاليف النقل وتسهيل التبادلات المعرفية وتوفير سوق عمل متخصص استنادًا إلى سلاسل إمداد قوية التأثير في النقل والتصدير الداخلي والخارجي. فالتوطين لا يقتصر على الإنتاج المحلي فقط وتبعاته على المنظمات المحلية وإنما يمتد أثره على الناتج المحلي الإجمالي (GDP) من خلال ثلاثة قنوات رئيسية تأتي في المقدمة زيادة الإنتاجية، وتليها تحفيز الابتكار الصناعي، ختامًا بخلق فرص عمل تنموية في القطاعات المرتبطة بالصناعة. وللجانب الاقتصادي جانب آخر في تقليص الواردات، ورفع الصادرات، وبالتالي جذب رؤوس أموال واستثمارات أجنبية. مفهوم توطين الصناعة ما هو إلا ترجمة لواقعية التجربة السعودية، التي اتخذت من توطين الصناعة ركيزة رئيسية لرؤية المملكة 2030. يأتي الحديث عن توطين الصناعات لأمة قررت أن تصنع مجدها بيدها، وتثبت للعالم قاطبةَ أنها قادرة على تحويل الطموح إلى مستهدفات ملموسة. تلك الأهداف الجريئة تتمثل في رفع المحتوى المحلي في الصناعات إلى 70% بحلول 2030 هو رقم يتمحور في بناء المستقبل وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وهو بطبيعة الحال انعكاس لتحقيق الاكتفاء الذاتي الوطني. جدير بالذكر أن صناعة الدفاع السعودية من المتوقع أن تصل نسبة توطينها إلى 50%، وهو ما يعكس السيادة العابرة للقارات واستقلال القرار الاقتصادي بناء ما وهبه الله لنا من خيرات، وممكنات ومن استراتيجيات صناع القرار والتي هي مصدر فخر لكل مواطن سعودي. وإذا ما توقفنا عند الطاقة المتجددة فمشروعات المملكة مثل محطة سكاكا للطاقة الشمسية، والتي تسعى لأن تنتج المملكة 50% من الكهرباء من مصادر مستدامة المصدر بحلول 2030 لتتبلور نحو تأكيد الحضور في السباق الصناعي العالمي وما هو إلا مقدمة تتموضع في ثورة التنقل الأخضر المستدام. إما على صعيد الحدث الأبرز في تحولات صناعة السيارات عالمياً فإن صناعة السيارات الكهربائية يتمركز في شركة لوسيد موتورز، والذي يتوقع أن ينتج 300 ألف سيارة كهربائية سنوياً، في مدينة الملك عبدالله الاقتصادية، هو دليل دامغ على نموذج الإصرار الريادي في عالم متسارع التقنيات. وفي قطاع الصناعات الدوائية تسعى المملكة لرفع نسبة التوطين إلى 50%، وتلك هي تأكيدات تحقيق السيادة الطبية. نأتي إلى مشروع نيوم والذي يشكل رمزًا عالميًا في عالم يعبق بتقنية الذكاء الاصطناعي، وما هو إلا قيادة لتلك النهضة الرقمية وتعزيز للأمن التقني الوطني المستدام، وذلك هو الواقع المرادف لكلمة الحالم الذي أصبح ملموس، فهو يبرز الإرادة القيادية في مدينة تلهم العالم، بأحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي، لمستوى غير مسبوق في العالم. كما أن التعدين له مكانة خاصة في قطاع الثروة المعدنية ليس مجرد رقم، بل هو إحدى محاور التنموية الشاملة، حيث تعظم شركة معادن كنوز الأرض والتي تستخرج بهمم أبناء الوطن، تأتي شركة معادن لتؤكد للعالم أجمع أن بطان الأرض السعودية ثري بالكنوز. وفي مجال الغذاء فلا تكتب قصة الاستقلال الغذائي إلا بأحرف من إبداع، فمن تبوك إلى البحر الأحمر حيث تزرع الخضروات وتربى الأسماك، تستخدم أبرز الممارسات العالمية في حفظ المياه والتي بدورها تنتج الغذاء بجودة عالية، وتلك هي خطوات واسعة لتحقيق مستهدفات الاكتفاء الغذائي الذاتي. وفي إطار سعي المملكة لمستقبل زاهر، وما هو إلا سعي لخلق أكثر من مليون وظيفة صناعية للمواطنين وتهدف إلى جذب استثمارات تصل إلى 75 مليون ريال سنوياً، استنادًا إلى بنية تحتية صلبة مختزلة الممكنات النوعية بين طيات التوسع والابتكار، وفي خاصرة هذا النسيج المتكامل، تقف المنشآت الصغيرة والمتوسطة، كروح للاقتصاد المحلي، يراد لها المساهمة بنسبة 35% في الناتج المحلي، وهي اليوم تعانق سقف المبادرات والبرامج الممكنة للنمو والتوسع. وبعد استعراض تلك المنجزات والمستهدفات نأتي إلى سلاسل التوريد فهي أساس التمكين الصناعي والتوطين، لقدرتها على تعزيز الكفاءة التشغيلية وتقليل الاعتماد على الاستيراد من خلال قدرات محلية التصنيع والتوزيع فضلاغ عن تحقيق الاستجابة السريعة للأسواق، وتلك هي الاستراتيجية الوطنية للنقل والخدمات اللوجستية. والتي تهدف إلى إنشاء 59 مركزًا لوجستيًا بحلول 2030، وهو سوق بقيمة 15.31 مليار دولار بحلول 2030 كما تهدف إلى تحسين ترتيب المملكة في مؤشر الأداء اللوجستي العالمي، مما يسهم في جذب الاستثمارات الأجنبية في خضم توفير بيئة لوجستية متقدمة داعمة لنمو الأعمال وتسهل الحركة التجارية. وفي نهاية مطاف المقال أود أن أنوه أن توطين الصناعات لا يقتصر على الصناعة الكلية فقط، بل يتجاوز ذلك في المساهمة في تبني أسلوب يعتمد على مواد خام أولية، قد لا تكون موجودة ضمن النطاق الجغرافي فيطورها وينميها إلى الشكل النهائي للمنتج توطين الصناعات يخلق جميع الفرص على مستوى الناتج القومي واستثمار رأس المال البشري في انفتاح عالمي يتسيد مشهد الابتكار المؤسسي.